الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
نحنُ‭ ‬من‭ ‬نزرع‭ ‬الشوك‭ ‬

بواسطة azzaman

نحنُ‭ ‬من‭ ‬نزرع‭ ‬الشوك‭ ‬

كامل عبدالرحيم

‭ ‬

قبل‭ ‬ان‭ ‬أبلغ‭ ‬الثامنة‭ ‬عشرة‭ ‬من‭ ‬عمري،‭ ‬أسرق‭ ‬الوقت‭ ‬من‭ ‬نفسي‭ ‬لأجلس‭ ‬وحيداً‭ ‬في‭ ‬ظلام‭ ‬السينما،‭ ‬مبتعداً‭ ‬عن‭ ‬أقراني‭ ‬وولعهم‭ ‬وقتذاك،‭ ‬وفي‭ ‬أدوار‭ ‬الظهيرة،‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الظلام‭ ‬ملاذاً‭ ‬للمهمشين‭ ‬والشواذ‭ ‬ومن‭ ‬هو‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬النوم‭ ‬أو‭ ‬الهاربين‭ ‬لهذه‭ ‬السبب‭ ‬أو‭ ‬ذاك،‭ ‬كنتُ‭ ‬أتفاجأ‭ ‬عندما‭ ‬أرى‭ ‬المرحوم‭ ‬عزيز‭ ‬السيد‭ ‬جاسم،‭ ‬وهو‭ ‬يُفلت‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬مسؤولياته‭ ‬الوظيفية‭ ‬والحزبية،‭ ‬بالسفاري‭ ‬البعثي‭ ‬التقليدي‭ ‬ومسبحته‭ ‬الكهرب‭ ‬الصفراء‭ ‬بحباتها‭ ‬الثقيلة،‭ ‬يطقطقُ‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬الظلام‭ ‬وحيداً،‭ ‬ليشاركني‭(‬نا‭)‬،‭ ‬ظلام‭ ‬الظهيرة،‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬أيضاً،‭ ‬الشاذون‭ ‬وهم‭ ‬لا‭ ‬يجدون‭ ‬مكاناً،‭ ‬لتفريغ‭ ‬عاطفتهم‭ ‬المنبوذة،‭ ‬وأيضاً‭ ‬فرصة‭ ‬لآخرين‭ ‬يصطادون‭ ‬مكاناً‭ ‬لممارسة‭ ‬العادة‭ ‬السرية‭.‬

كان‭ ‬الفيلم‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬هو‭ (‬نحنُ‭ ‬لانزرع‭ ‬الشوك‭) ‬من‭ ‬بطولة‭ ‬شادية‭ ‬ومحمود‭ ‬ياسين‭ ‬وصلاح‭ ‬قابيل‭ ‬وعدلي‭ ‬كاسب،‭ ‬بأغنية‭ ‬الشارة‭ ‬الخاصة‭ ‬بالفيلم‭ (‬والله‭ ‬يا‭ ‬زمن‭ )‬،‭ ‬محمود‭ ‬ياسين‭ ‬البطل‭ ‬الإيجابي،‭ ‬صلاح‭ ‬قابيل،‭ ‬الشرير‭ ‬والغاوي‭ ‬والذي‭ ‬يختفي‭ ‬طويلاً‭ ‬ليظهر‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬ابتزاز‭ ‬أو‭ ‬طعن‭ (‬حبيبته‭)‬،لكن‭ ‬من‭ ‬شدّني‭ ‬في‭ ‬الفيلم،‭ ‬هو‭ ‬عدلي‭ ‬كاسب،‭ ‬وهو‭ ‬يمر‭ ‬كربيع‭ ‬سريع‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬المعذبة‭ ‬لشادية،‭ ‬الأب‭ ‬أو‭ ‬السيد‭ ‬المحب‭ ‬للحياة‭ ‬والغناء،‭ ‬يزاول‭ ‬الرياضة‭ ‬عبر‭ ‬كرات‭ ‬الحديد‭ ‬الثقيلة‭ ‬وهو‭ ‬يغني،‭ ‬لكنه‭ ‬شأن‭ ‬الحياة‭ ‬نفسها‭ ‬ومتعها‭ ‬وأوقاتها‭ ‬الهانئة‭ ‬يموت‭ ‬سريعاً،‭ ‬قلتُ‭ ‬لنفسي‭ ‬في‭ ‬الظلام‭ (‬الحياة‭ ‬هي‭ ‬عدلي‭ ‬كاسب‭)‬،‭ ‬وإلى‭ ‬اليوم‭ ‬عندما‭ ‬أمارس‭ ‬بعض‭ ‬الرياضة،‭ ‬بين‭ ‬أرجاء‭ ‬البيت،‭ ‬وأرى‭ ‬صورتي‭ ‬في‭ ‬مرآته،‭ ‬أجد‭ ‬عدلي‭ ‬كاسب،‭ ‬يغادر‭ ‬عالماً‭ ‬هشاً‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬الإمساك‭ ‬به‭ ‬بعضلاته‭ ‬القوية‭.‬

ماذا‭ ‬ستفعل‭ ‬بحياتك،‭ ‬كيف‭ ‬تتعامل‭ ‬مع‭ ‬جسدك،‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬السؤال،‭ ‬نحنُ‭ ‬أكياسٌ‭ ‬تحمل‭ ‬أكياسا،‭ ‬أكياس‭ ‬فارغة‭ ‬تحمل‭ ‬أخرى‭ ‬ثقيلة،‭ ‬فلا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬تنفجر‭ ‬تلك‭ ‬الفارغة‭ ‬من‭ ‬ثقل‭ ‬الثانية،‭ ‬الفارغة‭ ‬هي‭ ‬أرواحنا‭ ‬الهائمة‭ ‬والضائعة‭ ‬القلقة،‭ ‬الأمارة‭ ‬بالسوء،‭ ‬والأخرى‭ ‬هي‭ ‬أجسادنا،‭ ‬بانطفائها‭ ‬السريع،‭ ‬برغباتها‭ ‬بنرجسيتها‭ ‬أو‭ ‬كراهيتها‭ ‬لزوائده،‭ ‬التي‭ ‬تئن‭ ‬من‭ ‬حمل‭ ‬فراغ‭ ‬أرواحنا،‭ ‬أجسادنا‭ ‬تحمل‭ ‬موتنا‭ ‬مثل‭ ‬نقش‭ ‬عميق،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ (‬شاصي‭) ‬السيارة،‭ ‬رقماً‭ ‬لا‭ ‬يتكرر،‭ ‬أجسادنا‭ ‬تترك‭ ‬طاقة‭ ‬كامنة،‭ ‬قوة‭ ‬خفية،‭ ‬مخبوءة‭ ‬لتحمل‭ ‬مكائد‭ ‬أرواحنا‭ ‬وجشعنا‭ ‬وشغفنا،‭ ‬تمرض‭ ‬لتذكرنا‭ ‬بالرقم‭ ‬السري‭ ‬لحياتنا،‭ ‬تقاوم‭ ‬عندما‭ ‬نضعها‭ ‬على‭ ‬الحافات،‭ ‬تقاتل‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬أجلنا،‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الرقم‭ ‬المحفور‭ ‬عميقاً‭ ‬على‭ ‬جذعها‭ ‬المتين،‭ ‬الروح‭ ‬خائنة‭ ‬والجسد‭ ‬أمين،‭ ‬لكنه‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬سيخونها،‭ ‬فينهار‭ ‬الكيس‭ ‬الثقيل‭ ‬من‭ ‬فراغ‭ ‬أرواحنا‭. ‬

الأكثر‭ ‬عذاباً،‭ ‬هم‭ ‬الذين‭ ‬يضعون‭ ‬أشياء‭ ‬واهية‭ ‬منارات‭ ‬لحياتهم،‭ ‬كانت‭ ‬أغنية‭ ‬لعباس‭ ‬جميل،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬لصلاح‭ ‬عبد‭ ‬الغفور‭ (‬خسرتك‭ ‬يا‭ ‬حبيبي‭)‬،‭ ‬وكانت‭ ‬نجاة‭ ‬بحبها‭ ‬الشاكي‭ ‬صعب‭ ‬المنال،‭ ‬حتى‭ ‬جاء‭ ‬محمد‭ ‬عبد‭ ‬الوهاب،‭ ‬في‭ ‬ذروة‭ ‬قوة‭ ‬الجسد‭ ‬وتطلباته‭ ‬والوفرة‭ ‬المادية،‭ ‬وغابة‭ ‬الفرص‭ ‬مثل‭ ‬ثمار‭ ‬مبذولة،‭ ‬جاء‭ ‬بأغنيته‭ ‬التلمودية‭ ‬اللوغاريتمية،‭ (‬من‭ ‬غير‭ ‬ليه‭ )‬،‭ ‬فخان‭ ‬الجسد‭ ‬رقمه‭ ‬السري،‭ ‬طارت‭ ‬الروح‭ ‬أو‭ ‬ضاعت،‭ ‬كان‭ ‬الأب‭ ‬السعيد‭ ‬القوي‭ ‬يغني‭ ‬أغنية‭ ‬صلاح‭ ‬عبد‭ ‬الغفور‭ ( ‬خسرتك‭ ‬يا‭ ‬حبيبي‭) ‬فيبكي‭ ‬ابنه‭ ‬الوليد‭ ‬بعامه‭ ‬الأول‭ ‬أو‭ ‬الثاني،‭ ‬ويضحك‭ ‬الأب،‭ ‬ليبكي‭ ‬وحيداً‭ ‬في‭ ‬ليل‭ ‬رغباته،‭ ‬مثل‭ ‬مراهق‭ ‬في‭ ‬ظهيرة‭ ‬سينما،‭ ‬سيتركها‭ ‬روادها‭…..‬عذراً‭ ‬يا‭ ‬ولدي‭…..‬نحنُ‭ ‬من‭ ‬نزرع‭ ‬الشوك‭.‬


مشاهدات 82
الكاتب كامل عبدالرحيم
أضيف 2024/07/24 - 6:08 PM
آخر تحديث 2024/07/27 - 2:28 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 312 الشهر 11675 الكلي 9373747
الوقت الآن
السبت 2024/7/27 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير