قبل ان أبلغ الثامنة عشرة من عمري، أسرق الوقت من نفسي لأجلس وحيداً في ظلام السينما، مبتعداً عن أقراني وولعهم وقتذاك، وفي أدوار الظهيرة، كان هذا الظلام ملاذاً للمهمشين والشواذ ومن هو بحاجة إلى النوم أو الهاربين لهذه السبب أو ذاك، كنتُ أتفاجأ عندما أرى المرحوم عزيز السيد جاسم، وهو يُفلت نفسه من مسؤولياته الوظيفية والحزبية، بالسفاري البعثي التقليدي ومسبحته الكهرب الصفراء بحباتها الثقيلة، يطقطقُ بها في الظلام وحيداً، ليشاركني(نا)، ظلام الظهيرة، كان هناك أيضاً، الشاذون وهم لا يجدون مكاناً، لتفريغ عاطفتهم المنبوذة، وأيضاً فرصة لآخرين يصطادون مكاناً لممارسة العادة السرية.
كان الفيلم ذلك اليوم هو (نحنُ لانزرع الشوك) من بطولة شادية ومحمود ياسين وصلاح قابيل وعدلي كاسب، بأغنية الشارة الخاصة بالفيلم (والله يا زمن )، محمود ياسين البطل الإيجابي، صلاح قابيل، الشرير والغاوي والذي يختفي طويلاً ليظهر من أجل ابتزاز أو طعن (حبيبته)،لكن من شدّني في الفيلم، هو عدلي كاسب، وهو يمر كربيع سريع في الحياة المعذبة لشادية، الأب أو السيد المحب للحياة والغناء، يزاول الرياضة عبر كرات الحديد الثقيلة وهو يغني، لكنه شأن الحياة نفسها ومتعها وأوقاتها الهانئة يموت سريعاً، قلتُ لنفسي في الظلام (الحياة هي عدلي كاسب)، وإلى اليوم عندما أمارس بعض الرياضة، بين أرجاء البيت، وأرى صورتي في مرآته، أجد عدلي كاسب، يغادر عالماً هشاً لم يستطع الإمساك به بعضلاته القوية.
ماذا ستفعل بحياتك، كيف تتعامل مع جسدك، هذا هو السؤال، نحنُ أكياسٌ تحمل أكياسا، أكياس فارغة تحمل أخرى ثقيلة، فلا بد أن تنفجر تلك الفارغة من ثقل الثانية، الفارغة هي أرواحنا الهائمة والضائعة القلقة، الأمارة بالسوء، والأخرى هي أجسادنا، بانطفائها السريع، برغباتها بنرجسيتها أو كراهيتها لزوائده، التي تئن من حمل فراغ أرواحنا، أجسادنا تحمل موتنا مثل نقش عميق، كما هو (شاصي) السيارة، رقماً لا يتكرر، أجسادنا تترك طاقة كامنة، قوة خفية، مخبوءة لتحمل مكائد أرواحنا وجشعنا وشغفنا، تمرض لتذكرنا بالرقم السري لحياتنا، تقاوم عندما نضعها على الحافات، تقاتل ليس من أجلنا، ولكن من أجل الرقم المحفور عميقاً على جذعها المتين، الروح خائنة والجسد أمين، لكنه في النهاية سيخونها، فينهار الكيس الثقيل من فراغ أرواحنا.
الأكثر عذاباً، هم الذين يضعون أشياء واهية منارات لحياتهم، كانت أغنية لعباس جميل، ومن ثم لصلاح عبد الغفور (خسرتك يا حبيبي)، وكانت نجاة بحبها الشاكي صعب المنال، حتى جاء محمد عبد الوهاب، في ذروة قوة الجسد وتطلباته والوفرة المادية، وغابة الفرص مثل ثمار مبذولة، جاء بأغنيته التلمودية اللوغاريتمية، (من غير ليه )، فخان الجسد رقمه السري، طارت الروح أو ضاعت، كان الأب السعيد القوي يغني أغنية صلاح عبد الغفور ( خسرتك يا حبيبي) فيبكي ابنه الوليد بعامه الأول أو الثاني، ويضحك الأب، ليبكي وحيداً في ليل رغباته، مثل مراهق في ظهيرة سينما، سيتركها روادها…..عذراً يا ولدي…..نحنُ من نزرع الشوك.