تَوَسُّمٌ قرائي في عنوان (قطارات تصعد نحو السماء) للقاص فاتح عبد السلام
ومضة إبداعٍ في أفقِ النَّصِ
جاسم محمد صالح الدليمي
إن انشغال التناول النقدي الحديث ببنية العنوان ومستوياتها الدلالية ومعالجتها وفق مناهج نقدية حداثية وتحليل نسقها التركيبي في محاولات نقدية جادة ورصينة لبيان الارتباط الوثيق بين العنوان وبين المتن لأجل تكوين نص ادبي ينتمي الى جنس ادبي له أصوله البنائية وسماته الجمالية وهيمنة هذا التناول على وعي الناقد وفكره صرفه عن النظر الى التشكيل البصري الذي يقوم عليه العنوان فضلا عن الخلفية الصورية المحيطة بالعنوان خطا ورسما. ومع الاعتراف بالقيمة الموضوعية الرصينة للجهد النقدي في تناول بنية العنوان الا أن اغلب الدراسات التي نال العنوانَ اهتمامُها تنظيرا وتطبيقا لم تعن بالخلفية البصرية او التشكيل المرئي المحيط بالعنوان وهو ذو اثر فاعل في تحرير بنية العنوان بتركيبها اللغوي والنحوي فضلا عن تشكيلها الجمالي .
صياغة لغوية
بمعنى أن بنية العنوان بصياغتها اللغوية تتكيف بقيمتها الفنية وايحاآتها الدلالية مع التشكيل البصري الذي تنهض عليه وهو يؤدي دورا فاعلا ومؤثرا في الكشف عن قيمها الجمالية وابعادها المضمونية حيث تتفاعل العين بمدركها البصري مع النص بإيحائه الفكري لإنتاج معان معبرة عن مستويات العنوان الوظيفية في استدراج المتلقي أو اثارته وتحفيزه نحو استقبال المتن استيفاء أو استكمالا لبنية النص الكلية . إن العنوان المخطوط على ورقة غلاف المنجز الإبداعي ذو ارتباط وثيق بما يتوافر حوله من صور او رسوم او تخطيطات تمثل في جانب منها عنوانا محايثا للعنوان المدون كتابيا حيث ينهض الاثنان بوظيفة الإعلام الأوّلية عن مضامين النص الإبداعي او الإحالة الى أبرز دلالاته الأدبية والفكرية فضلا عن أنها تحفز المتلقي نحو تأمل عناصر ورقة الغلاف وما توافر فيها من ايحاآت محاولا تأويلها أو اكتشاف بعض دلالاتها وربطها بالمدون كتابيا استكمالا لتحقيق العنوان الأوسع للمنجز الإبداعي وعدم الاكتفاء بما هو مكتوب فقط . وإن تكامل العنوان بين ما هو مكتوب وما هو مرسوم يمنح العنوان قيمة جمالية أوفر ويفعل وظيفته الدلالية وربما ينهض بها الى مستوى مواز لمضامين المتن ومعلنا عنا بايجاز لغوي وتمكين بصري . إن العنوان لا يمثل عتبة النص – كما قرر ذلك منظروه ومترجموه عن الأدب الغربي - بل هو مفتاح له ذلك أن وظيفة العتبة تبدأ عند المدخل وتنتهي عنده أيضا ولا تتجاوز ذلك الموضع وهي ثابتة اما العنوان فهو مفتاح النص وهو المتحرك الذي ينتقل بالمتلقي من خارج النص الى داخله .العنوان المفتاح يوحي بمضامين المتن ويكشف مبدئيا عن أفكاره ودلالاته لا العنوان العتبة .
نلحظ في تَوَسُّمِنا – تَوَسَّمَ الشَّيءَ: طَلَبَ علامَتَهُ أيْ وَسْمُهُ – القرائي لعنوان المجموعة القصصية للقاص فاتح عبد السلام طوله النسبي (قطارات تصعد نحو السماء) إذ يتكون من اربعة عناصر لغوية تتوزع بين ثلاثة اسمية وفعل واحد حيث قطارات مبتدأ والجملة الفعلية خبره والظرف المتعلق بالفعل نحو والسماء المضاف اليه ، ترتبط العناصر اللغوية المكونة للعنوان بروابط الاتصال النحوي التركيبي لتقيمه عنوانا لمنجز أدبي قصصي .
إن ركني جملة العنوان الاساسيان في الدلالة – وليس في التركيب النحوي – هما قطارات / السماء وهما محورا استقطاب لذهن المتلقي وتوجيه وعيِّه القرائي نحو الأبعاد الدلالية التي تتيحها أو يمكن ان تعبر عنها كما أنها تجعله مهيأ لاستقبال متن النص ومضامينه بما ينسجم وتلك الدلالات التي أتاحتها بنية العنوان بين يدي قراءته الأولى لها . القطارات – جمع بإزاء مفرد السماء - مكوّن حديدي ارضي جامد لا إحساس له أو فيه ذو حركة رتيبة مملة صاخبة يسير في اتجاهات محددة مقيد بها لا يخرج عليها ناشرا عتمة دخانه بين زرقة السماء يغادر المحطات ليعود اليها من جديد يحمل افواجا من البشر لا يأبه لصخبها ولا تعنيه رحلاتها يلقيها بين محطات الغربة والحنين ، وربما في جانب آخر من معاني القطار ذي التكوين الحديدي هو حنينه الى السماء التي نزل منها حيث يعلو صوته العنيف ليعلن عن ذلك الحنين كما في صوت عود الناي الهادئ الذي يحن الى الشجرة التي اقتطع منها .
السماء فضاء واسع مفتوح يعبر عن معاني الحرية والانطلاق والرفعة والسمو يتعالى على المكون الأرضي المُدَنس بقوى المنع والحبس والكبت والاستغلال والبطش والظلم والقهر.....الخ السماء تعبر عن المعاني الروحية المقدسة المناهضة للمادية الأرضية المدنسة التي طالما حلم الانسان أو سعى الى الخلاص منها والارتقاء بفعله الإنساني نحو السماء ومعاني النقاء والطهر فيها . ان التلقي البصري لعنوان المجموعة القصصية لا يتقيد بالمكتوب وحده انما ينشغل أيضا بصفحة الغلاف بقسميها : العلوي ذي الخلفية البيضاء المستوعب للعنوان المكتوب مع اسم المؤلف ونعتقد ان هذا الامر مقصود في اخراج صفحة الغلاف بهذه الصيغة حيث البياض وايحاآته في النقاء والطهر من خطايا وآثام البشر وربما يحيل الى درجة صفر الوعي لدى المتلقي بدلالات ومضامين الابداع القصصي الذي انجزه المبدع وفق تجربته الإنسانية ذات الأثر الفكري الواعي باستحقاقات الانسان في الحرية والعيش بكرامة واحترام لرغباته الإنسانية دون قهر أو ظلم. ويلاحظ في صياغة العنوان أنه كُتب بكلمتي (قطارات تصعد) في سطر علوي وكلمتي (نحو السماء) بسطر سفلي - وبالون ازرق المقترن بلون السماء - لتُبرز في هذه الصيغة معاني الصعود والعلو المقصودة في الابعاد الدلالية للعنوان ولمتن النص . وأما القسم السفلي فقد احتوى لوحة تشكيلية ذات الاتجاه التكعيبي الذي يحلل العناصر المكونة للأشياء محاولا الكشف عن أعماقها، حيث يعنى بتحليل أو تفتيت الاشكال وتجزئتها الى اشكال هندسية – مكعبات أو مستطيلات أو دوائر الى غير ذلك – محاولا بنائها في صورة جديدة ، فضلا عن التعامل مع الأشياء المرسومة في اللوحة وعناصر تكويناتها الخطية بوعي لوظيفتها الجمالية ومضامينها الفكرية والمعرفية . تبرز في اللوحة بوضوح خطوط القطار القائم على سكة حركته الصاخبة الباعثة دخانه المتصاعد بكثافة والتواء نحو السماء التي بدت بعيدة عن مساره ، ويبدو الشكل الظاهر للقطار كأسطوانة مخروطية تشكل فوهتها مقدمة القطار وكأنها تبتلع المسافات المارة بها وتلقي بها في جوف الغياب حيث السواد والعتمة والظلام المعلن عنها باللون الأزرق القاتم - الذي يقترب من السواد - الموشح لشكل القطار.
وتظهر الخطوط المستقيمة في اللوحة لتؤدي وظيفتين : الأولى تفتيت أو تجزئة مكونات اللوحة ، والثانية هي تمكين هيئة القطار من الوضوح حيث الخطوط المستقيمة الافقية شكلت قاعدة ينهض عليها القطار ومقترباته الجانبية ، اما الخطوط المستقيمة العمودية فقد مثلت حدودا فاصلة بين عربات القطار – كأنها تجزؤها - فضلا عن تشتيت الدخان المرسل نحو السماء بما يفتت كثافته .
ومن المعاني المهمة التي يوحي بها شكل القطار هي القدامة حيث هو من نماذج القطارات القديمة ليعبر عن قِدَمِ الصراع الإنساني القائم بين قيم الحرية والكرامة الإنسانية – التي توحي بها السماء - وبين قيم الظلم والقهر والاستبداد – التي يوحي بها القطار بانتمائه الأرضي المادي - فضلا عن قِدَمِ رحلات النفي والاغتراب التي عاشها الانسان .
منجز ادبي
أما على مستوى التشكيل اللوني في اللوحة فقد توشح القطار باللون الأزرق القاتم المنطفئ ليتضاد مع اللون الأزرق الفاتح اللامع الذي غطى السماء معلنا تضاد المعاني أو القيم المعبر عنها فيما اشرنا اليه ، ويدخل اللون البني بدرجة الغامق المائل الى الأحمر ودرجة الفاتح في اللوحة ليحيط بحافات الأرض القريبة من القطار والبعيدة وليكون عنصر إضاءة لها ونجاة من عتمة القطار وتلوثه وصخبه . ويبدو أن اللوحة تم اعدادها بوعي ومقصدية لتكون في غلاف المنجز الأدبي لتشكل مع العنوان الكتابي عنوانا متكاملا للنص الأدبي وهذا يتوافق مع تصورنا لعناصر العنوان ومكوناته اللغوية والبصرية التي أشرنا اليها في استهلال توسمنا القرائي. ان بناء العنوان وفق تركيبته اللغوية والنحوية (قطارات تصعد نحو السماء) واقامته بؤرة دلالية يستثمرها المتلقي في الدخول الى عالم المتن والاقتراب من وقائعه النصية انما هو نتاج وعي المبدع الفاتح عبد السلام – في أهمية العنوان وبلاغة وظيفته التوصيلية - واصالة فكره الذي انجز العنوان بصيغته تلك وجعله مفتاحا للمتن القصصي وهو بذلك يعبر عن خبرته المتقنة لفن الكتابة عامة وللقصِّ خاصة – لأكثر من خمس وأربعين سنة - وانعكاسا لتجربته الإبداعية في اطار جنسي القصة القصيرة والرواية الطويلة فضلا عن ممارسة النقد الادبي بحثا اكاديميا وانتاجا معرفيا.