نعيش في الغربة خارج الوطن، منا من انشغل بماديات الحياة، ومنا بملذاتها، وآخرون أقعدهم الحزن وغلفتهم الكآبة! كما ان هناك فريق رابع ممن راح يبحث عن دور له في الحياة وعن “أنا” ضائعة فبات مشغولاً بأعمال وحتى نضالات حسبها أنها تحمل له الشمس في غدها!
لا يمكن لأحد الحكم على صحة حياة هذا أو عمل ذاك. الجميع يعمل برضى نفسه عنه وقناعته بما يقوم به، وربما بما يعيش من ظروف ومعطيات وبما يقدر عليه.
في هذا المقال وددت التركيز على جانبين فقط من جوانب انشغالات الإنسان: السياسية والثقافية.
في خارج الوطن يعيش ملايين العراقيين في أطياف سياسية شتى. منهم كبير السن الذي كان قد غادر الوطن منذ أيام العهد الملكي، وهم لم يعودوا بكثرة. تقرأ في مواقفهم وتسمع منهم نبرات حادة ضد بريطانيا والرجعية والاستعمار والاقطاع، وهو يعيش منذ عشرات السنين في كنف من يلعنهم، ويا للمفارقة!
آخرون تسمع منهم ويجادلونك في الديالكتيك ودكتاتورية البروليتاريا والطبقة العاملة وفائض القيمة واستغلال الإنسان للإنسان والعمالة للاستعمار والقيم البالية، ولم ينسوا دور الطبيعة وتسفيه الغيبية وفردوس الشيوعية.
في المقهى المقابل اعتاد أن يجلس نفر من آخرين يتبادلون نخب النشوة القومية في ماضيها وأحلامها الوحدوية ويقدسون مفاتيحها الى النهضة والعزة والكرامة. يتداولون المقالات والصور والفيديوات وما قيل وقال على وسائل التواصل الاجتماعي الذي أصبح اليوم سوق هرج ومرج لمن هب ودب من عالم وجاهل.
ولم يختف من مشاهد الحياة ذوو اللحى المحناة من مناصري آل البيت أو صحابة رسول الله! فهذا سلفي وذاك جعفري، وثالث وجد في الاخوان السبيل ورابع في ولاية الفقيه!
والطريف جداً أن الجميع يتحدث ويتشدق بالعدالة والكرامة والحرية والتقدم والسعادة!!
وحتى أولئك الذين ينشغلون بالعمل الثقافي والفني قد يوهمون أنفسهم بأعمال لا تغني ولا تسمن من جوع. لم تعد الثقافة ترفاً فردياً ولا خيالاً لا يؤدي الا الى سراب وخداع، رغم ما يحققه من نشوة الإحساس بالانجاز والفخر بإطرءات هذا أو ذاك ممن يفهم وممن يجهل. لا ينبغي للعمل الثقافي أن يكون سبيلاً الى الهروب والابتعاد عن عمل ما ينفع الناس.
كثيرون من هؤلاء قضوا، وما يزالون، مئات وآلاف الساعات والأيام في أحاديث ونقاشات ومناظرات ومناكفات وحتى أعمال غير مؤثرة، على حساب تعلم ما يفيد وعمل ما يؤثر! لقد كان ما أضاعوه من وقت أشبه بالمخدرات التي أقعدتهم عن العمل والبناء، وأوهمتهم أنهم يسيرون في اتجاه الشمس والحقيقة والخلاص.
بيد أنني لا بد أن استدرك: لا يحق لي أو لغيري أن يفرض على الآخرين رؤية للحياة فننتهي الى القول، وربما انصعنا له:
“كل قوم بما لديهم فرحين”
برلين، 26.04.2024