الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
أزمة شرعية العملية الانتخابية في العراق

بواسطة azzaman

أزمة شرعية العملية الانتخابية في العراق

سعود حسن شنكالى

 

تُظهر التجربة الانتخابية في العراق أن العملية السياسية تحوّلت تدريجيًا إلى معركة مالية مفتوحة أكثر من كونها منافسة ديمقراطية حقيقية، حيث أصبح من الصعب على أي مرشح أن يحقق الفوز من دون إنفاق مبالغ طائلة تصل إلى حدود المليار دينار للحملة الواحدة. لم يعد هذا الإنفاق مجرد وسيلة للدعاية، بل تحوّل إلى ثقافة انتخابية مهيمنة تُعيد إنتاج ذات النمط من الدورة إلى أخرى. ومن ثمّ، يمكن القول إن المال بات هو المحدد الأساس للسلطة، وأن معيار الكفاءة والرؤية تراجع أمام النفوذ المالي. هذه الظاهرة تكشف عن اختلال عميق في البنية الديمقراطية العراقية، حيث تتراجع المنافسة الحرة لصالح منطق القوة الاقتصادية، ليغدو المال الحاكم الفعلي لمفهوم السيادة الشعبية.

أصبحت الانتخابات في العراق إجراءً شكليًا متكرّرًا لا يترك أثرًا جوهريًا في بنية النظام السياسي، إذ يذهب المواطنون إلى صناديق الاقتراع وهم يدركون أن النتائج شبه محسومة، وأن القوى التقليدية ستعود من جديد بثوبٍ محدث. لم يعد التصويت فعلًا ديمقراطيًا حقيقيًا، بل طقسًا إداريًا موسميًا يؤديه الناخب دون قناعة حقيقية بالتغيير، مما أفقد الديمقراطية معناها الجوهري وحوّل يوم الاقتراع إلى مسرحٍ سياسي متكرر يخلو من الروح الشعبية.

إن ما نشهده اليوم لا يمكن توصيفه بمجرد فسادٍ انتخابي، بل هو أزمة ثقافية وسياسية مركبة، تتجلى في تحوّل الصوت الانتخابي إلى سلعةٍ قابلة للبيع والشراء. وعندما تصبح الإرادة الشعبية قيمةً نقدية، تفقد الديمقراطية معناها بوصفها تعبيرًا عن الوعي الجمعي، لتتحوّل إلى صفقة مالية مؤقتة تخدم مصالح الأفراد لا المصلحة العامة.

تقوم الديمقراطية في جوهرها على حرية المشاركة والإرادة المستقلة، غير أن الواقع العراقي يشهد تراجعًا في هذا المبدأ نتيجة الإغراء المالي والاستغلال السياسي للفقر. فحين يُستدرج المواطن بثمنٍ مادي، تتصدع الشرعية السياسية، ويتحوّل النظام إلى ديمقراطية شكلية بلا مضمون حقيقي ولا تمثيل فعلي للإرادة الشعبية.

كما أن انتشار المال السياسي بهذا الشكل يعكس هشاشة مؤسسات الدولة وضعف الرقابة والمساءلة القانونية، إذ أضحى المال وسيلةً لتزييف الوعي وغسل الأموال معًا. وتُعزى جذور هذه الظاهرة إلى عدم سيطرة الدولة على مواردها ومنافذها الحدودية، ما جعل تمويل السياسة يتم من خارج القانون لا من داخله، الأمر الذي يهدد مفهوم الدولة القانونية ذاتها.

ومن جانبٍ آخر، تُظهر الممارسة الحزبية في العراق أن الأحزاب لم تعد تعتمد على البرامج والسياسات التنموية كأساس للمنافسة، بل باتت تستند إلى التحالفات العشائرية والتجارية لتأمين قواعدها الانتخابية. هذا التحول يعكس هيمنة البنى التقليدية والاقتصادية على الحياة السياسية، في ظل غياب المساءلة المؤسسية والرقابة الديمقراطية، مما حوّل الانتخابات إلى آلية لتكريس النفوذ الشخصي بدل أن تكون وسيلة لتجديد النخب والسياسات.

وفي إطار أوسع، يمكن تفسير ذلك ضمن مفهوم "رأس المال السياسي"، الذي يدمج بين المال والنفوذ الاجتماعي بوصفهما أدواتٍ للهيمنة الانتخابية. ونتيجة لذلك، تُهمَّش أولويات الدولة في مجالات التعليم والصحة والبنية التحتية، ويُستبدل التخطيط الاستراتيجي بالمناورات القبلية والصفقات الاقتصادية قصيرة الأجل. وهكذا يتحوّل المواطن من فاعلٍ سياسي إلى متلقٍ لمنافع محدودة، ويُرتهن مستقبل الأجيال بالولاءات الضيقة لا بالرؤية الوطنية.

يزداد المشهد تعقيدًا عندما نأخذ في الاعتبار دور القوى المسلحة والأجهزة الأمنية، إذ غالبًا ما تنفّذ هذه القوى أوامر قياداتها دون استنادٍ إلى رضا شعبي أو رقابة مدنية. وهو ما يتعارض مع مبادئ الديمقراطية التي تقوم على سيادة القانون والمؤسسات على السلاح. ومن هنا تبرز ضرورة حصر السلاح بيد الدولة بوصفه شرطًا جوهريًا لحماية العملية الانتخابية وضمان شرعية القرار السياسي.

إن إنقاذ الديمقراطية في العراق لا يتحقق بالشعارات، بل عبر إصلاح الثقافة السياسية وبناء المؤسسات الشرعية. فالديمقراطية ليست مجرد صناديق اقتراع، بل عقد اجتماعي متبادل بين الشعب والدولة يقوم على الحقوق والواجبات والمساءلة المستمرة.

ختاماً، يمكن القول إن الديمقراطية العراقية الراهنة تحوّلت إلى نموذجٍ شكلي مفرغ من محتواه، تُمارس فيه الطقوس دون حضور المبدأ. فهي واقعٌ مقلوب يُدار بخطاب الحرية بينما يُفرغ من روحه، لتبقى الديمقراطية في العراق شكلًا بلا مضمون، ومؤسسةً بلا شرعية حقيقية.

 


مشاهدات 77
الكاتب سعود حسن شنكالى
أضيف 2025/10/11 - 2:19 AM
آخر تحديث 2025/10/11 - 7:13 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 199 الشهر 7002 الكلي 12146857
الوقت الآن
السبت 2025/10/11 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير