وريقات من دفتر ذاكرة غير مدوّنة
كوكب حمزه .. قدّاح وشموع وعصافير
عبد الحسين شعبان
رحل الفنان والملحن الموسيقي الكبير، كوكب حمزة في كوبنهاغن بالدانمارك عن عمر ناهز الثمانين عامًا (1944 – 2024)، مخلّفًا سيرة فنية طويلة ومتميزة. وقد ترك غيابه موجة من الحزن والأسى في الوسط الفني والثقافي العراقي والعربي.
عُرف كوكب منذ أواخر ستينيات القرن الماضي بالأغنية العراقية الجديدة، بل إن تجديد الأغنية العراقية ارتبط باسمه إلى حدود كبيرة فيما يتعلق بالبناء الموسيقي والألحان التعبيرية والتصويرية والأسلوب الإيقاعي، إضافة إلى اختياراته للشعراء الشعبيين المعروفين ليلحّن لهم، مثل أبو سرحان (كزار حنتوش المختفي قسريًا منذ الاجتياح «الإسرائيلي» للبنان العام 1982) وزهير الدجيلي وكاظم الركابي ورياض النعماني وآخرين، وما تزال ألحانه حاضرة في الذاكرة العراقية والعربية.
ولعلّ أغنيات «يا نجمة» و»يا طيور الطايرة» و»القنطرة بعيدة» و»مكاتيب» و»يا هوى الناس»، هي الأغاني التي عُرف بها عدد من الفنانين والمطربين الكبار، مثل حسين نعمة وسعدون جابر وغيرهما، كما لحّن لفنانين آخرين، مثل مائدة نزهت وفاضل عواد وفؤاد سالم والكويتي عبد الله رويشد والمغربية أسماء المنصور والسورية أصالة نصري في بداية مشوارها الفني في دمشق أواخر الثمانينيات.
ولد كوكب في ناحية القاسم (محافظة بابل - الحلّة)، وأكمل دراسته في معهد الفنون الجميلة ببغداد، وعمل معلّمًا في البصرة. وكنت قد تعرفت عليه في أواخر عام 1969، وضمّتنا جلسة في مدينة الحريّة بمشاركة الشاعر الشعبي كاظم اسماعيل الكاطع والصديق هاشم وآخرين. والتقيته بعد ذلك في براغ، حين جاء للدراسة في أواسط السبعينيات.
وصادف في تلك الفترة، أن عددًا من الفنانين كان يدرس بفروع مختلفة، وكانوا جميعهم أعضاء في جمعية الطلبة العراقيين، التي كان لي شرف رئاستها، حيث كنت أحضّر أطروحتي للدكتوراه. أذكر منهم ما اختزنته الذاكرة محسن العزّاوي وابراهيم السعدي وفخري العقيدي وفتحي زين العابدين، وقد كانت غزوة الخالدي تتردد في تلك الفترة على براغ، وهؤلاء جميعهم من الفنانين المسرحيين الكبار.
أما الفنانون الموسيقيون فكان منهم كوكب حمزه وصباح عبد القادر (عازف الكمان)، ومن الرسامين عماد الطائي ومحمد صادق، ومن هؤلاء جميعًا تشكلت الفرقة الفنية، وانضمت إليها شيرين ميرزو (السورية) ورشيقة (المصرية) وهادي راضي المختص بالإنارة، وهو الآخر جاء لدراسة المسرح لكنه تحوّل لاحقًا إلى الدراسة المهنية، وبرع فيها.
كان كوكب عضوًا في الحزب الشيوعي العراقي، واسمه الحزبي “زيتون”، وانضم من الفنانين إلى الحزب بصفة مرشح ابراهيم السعدي وفتحي زين العابدين، ولحق بهم شخص ظريف اسمه طارق، وتكونت منهم خلية حزبية أشرَفْت عليها لبضعة أشهر، وكانت معظم اجتماعاتها ذات مسحة ثقافية فنية في غرفتي بالقسم الداخلي بالكومنسكي كولي.
كانت الدراسات الفنية في براغ صعبة ومعقدة وشروطها قاسية، إضافة إلى صعوبة اللغة، ولذلك لم يتمكن عدد غير قليل من الذين قبلوا فيها الاستمرار في الدراسة، وهو ما حصل لكوكب أيضًا ولأربعة من المقبولين. وكان القرار أن يعود الذين لم يتمكنوا من الاستمرار في الدراسة إلى العراق حسب القوانين والأنظمة الجامعية، فضلًا عن ذلك، فإن شعار الجمعية كان «التفوق العلمي والعودة إلى الوطن»، ولكن هناك من استثنى أحدهم مقترحًا أن يرسل إلى موسكو لاستكمال دراسته، وكان رأيي إما أن يعود الجميع أو أن نجد فرصة للجميع دون استثناء ودون تمييز لأية اعتبارات، وجميعهم كانوا من أصحاب الكفاءات، كل حسب اختصاصه، وهو ما حصل بالفعل، لاسيّما بالخشية من تسرب المعلومة التمييزية إلى الطلبة، وبعد مناقشات واسعة وأخذ ورد وجدل وسجال، تقرر البحث في امكانية إيجاد فرص جديدة لهم، وهكذا سافر كوكب حمزة إلى أذربيجان لدراسة الموسيقى الشرقية في باكو.
وفي مطلع الثمانينيات ترك كوكب دراسته ملتحقًا بقوات الأنصار «البيشمركة»، وكنت قد جئت على ذكره في كتابي «بشتاشان - خلف الطواحين… وثمة ذاكرة»، وذلك استذكارًا لأنور طه النجار «أبو عادل»، الذي كان يلتقط بعض الأشياء الجميلة ويحولها الى لازمة محببة يرددها الكثيرون، فمثلًا كان يمزح باستذكار الصديق كوكب حمزه مرددًا (بدربك حببّب) كناية عن طلب مساعدة الآخرين، حتى تحولت هذه المقولة إلى لازمة شائعة في كردستان بين الأنصار.
محطة لقاء
في أواسط الثمانينيات، وكنت قد عدت من كردستان أيضًا، وكنا نلتقي في شقته التي كانت محطة للقاء العديد من المثقفين من أعضاء رابطة الكتاب والصحفيين والفنانين الديمقراطيين العراقيين، كما كنا نلتقي في شقة طبيب الأسنان السوري الدكتور مازن في منطقة الجسر الأبيض، وغالبًا ما تكون اللقاءات بحضور سعدي يوسف وطارق الدليمي، الذي كان منزله مضافة مستمرة للغالبية الساحقة من المثقفين العراقيين، وهو ما جئت عليه في سرديتي «طارق الدليمي: «الصديق اللّدود» كلّمــا اختلفـت معه ازددت محبّة لــه»، المنشورة في صحيفة الزمان (العراقية) على حلقتين ، العددان 6588 و 6589 بتاريخ 18و19 شباط / فبراير 2020.
ومن أصدقائه المقربين في الشام الفنان فلاح صبّار والشاعر رياض النعماني والشاعر المصري أحمد فؤاد نجم والشاعر السوري ممدوح عدوان، ويلتقي بمظفر النواب وبندر عبد الحميد وعبد الكريم قاصد وشفيق الياسري وقيس الصرّاف، وفي الفترة الأخيرة الشاعر محمد مظلوم.
وأعتقد أن فترة الثمانينيات التي قضاها في الشام هي من أجمل فترات حياته، وظل يحن إليها، وحتى حين ذهب للجوء السياسي في الدانمارك كان كثير التردد إلى دمشق، بل إنه قضى فيها فترة أخرى لا تقل جمالًا عن فترته الأولى، وكانت دمشق أحب المدن إليه والسوريون أقرب العرب إلى قلبه، ولم يعد إلى بغداد، إلّا بعد العام 2003، وكنت ألتقيه في كلّ زيارة إلى كوبنهاغن أو في دمشق أو في لندن أو في بيروت، وفيما بعد في بغداد أو أربيل أو السليمانية.
على الرغم من أن إقامته في براغ لم تدم أكثر من عامين، لكنها كانت كافية لاطلاعه على الموسيقى العالمية وتوسيع ثقافته الموسيقية، التي تمتاز بمخيلة أقرب إلى الفن التشكيلي، وأتذكر أنه استكمل أو أعاد تلحين أغنيه «هوى الناس» في غرفتي في نهاية العام 1974 أو مطلع العام 1975.
أصبحت ألحان كوكب تمثل الذوق الجديد للأغنية العراقية، ويُعدّ وطالب القرغولي ومحمد جواد أمّوري من أكثر الذين استقروا في الذاكرة الفنية العراقية. فمن لا يتذكر حسين نعمة وأغنية «يا نجمة» للشاعر كاظم الركابي وسعدون جابر وأغنية «يا طيور الطايرة» و»محطات» للشاعر زهير الدجيلي، وكل ذلك كان من إبداع كوكب حمزة، الذي عاش منسجمًا مع نفسه ومخلصًا لفنّه. وكان آخر لقاء لي معه في منزل الشاعرة والإعلامية نوال الحوار في بيروت صاحبة صالون 15، وبحضور نخبة من المثقفين العرب، وذلك بعد لقائنا في السليمانية في مهرجان «مظفر النواب يتلألأ في ضمائرنا».
عيني يا عيني يا هوى الناس
قدّاح وشموع وعصافير
يا ليل ومعاشر نواطير
مرّات ياخذنه الهوى اثنين
ومرّات تنساه الدواوين
ومرات نسأل عالوفه وين
يا عيني.. يا روحي
يا هوى الناس