حسن النواب
في مطلع الحرب مع إيران، نشر الشاعر عدنان الصائغ بيان الجيل الثمانيني في مجلة حراس الوطن وكان بعنوان بيان أول للجيل بيان أول للحداثة مع صرخةٍ استفزازيةٍ: انتبهوا الثمانينيون قادمون. لم يتردَّد الصائغ في بيانه من إعلان تذمره وتهكمه على القصيدة العامودية التي كانت تتصدَّر الصفحات الثقافية بمدائحها للقائد الضرورة؛ فيما كان معظم شعراء ذلك الجيل في جبهات الموت؛ منهم من يكتب قصيدة التفعيلة والأغلبية يكتبون قصيدة النثر وقد ضاقت بهم دروب النشر، فغامر بعضهم على نشر قصائدهم الموزونة بدواوين صغيرة على حسابهم الخاص أذكر منهم حميد كاظم الصائح في ديوانه المكوث هناك بغلافه الوديع الذي احتوى على فانوس أخضر؛ وسعد جاسم بديوانه فضاءات طفل الكلام، وعبد الرزاق الربيعي بديوانه إلحاقا بالموت السابق، وريم قيس كبه بنوارس تقترف التحليق وأمل الجبوري بديوانها خمر الجراح وحتى عدنان الصائغ بديوانه البكر أغاني على جسر الكوفة. وكما هو واضح أنَّ النصيب الأكبر من شعراء الثمانينات الذين نشروا مجاميعهم الشعرية من جيوبهم الفارغة؛ هم من شعراء التفعيلة في تلك الفترة، ولعلَّ باكورة دواوين قصيدة النثر على حساب الحكومة كانت من نصيب الشعراء السبعينين، ومنها ديوان الشاعر زاهر الجيزاني الأب في مسائه الشخصي والشاعر كمال سبتي في متحف لبقايا العائلة والشاعر المتجدد خزعل الماجدي بديوانه خزائيل وعادل عبد الله بمؤونة الرحيل الى الفراغ، ولم يكن نشر تلك الدواوين النثرية بالأمر السهل فلقد تشاجروا مع إدارة الشؤون الثقافية مراراً وتكراراً حتى تمكنوا من إرغام المؤسسة على نشر أشعارهم النثرية التي كانت تُطلق عليها تسمية مريبة من قبل المؤسسة الثقافية بوصفها جاءت بدعة من الغرب. وهكذا فتح شعراء السبعينيات الباب على مصراعيها لقصيدة النثر والتي كانت ترى بنصوص شعراء الثمانينيات ملاذها الحقيقي. وحين أدرك “السبعينين” بفطنتهم الذكية أنَّ هؤلاء الذي تشبَّعتْ أنوفهم ببارود الجبهات وهلعهم في السيطرات قد أحكموا الوثاق على قصيدة النثر وكان لابد من الاستجابة لنصوصهم والاعتراف بهم؛ فظهر كتاب الطليعة الأدبية والذي ضمَّ رأس النفيضة من شعراء الثمانينيات مع شعراء خليط؛ حتى جاءت مبادرة الشاعر زاهر الجيزاني والذي كان يعمل محرراً في الطليعة الأدبية فغامر بنشر فضاء شعري مبكر لقصيدة النثر الثمانينية؛ كان من نصيب الشعراء محمد تركي النصار والغجري نصيف الناصري وباسم المرعبي وأحمد عبد الحسين. لم تمض سوى أيام عل نشر نصوصهم حتى قامت الدنيا في حينها، إذْ انبرى شعراء العامودي وحتى التفعيلة على استهجان وشتم الملف في الصحف؛ ولعلَّ مقالة الشاعر فاضل عزيز فرمان الطويلة والعريضة والتي نشرتها جريدة العراق بعنوان “الدادائيون يشربون الشاي في مقهى حسن عجمي” قد أثارت ردود فعل متباينة، فيما اتَّضحتْ بجلاء نظرة السلطة الثقافية الناقمة على قصيدة النثر؛ ولما حاول بعض المتحمسين لقصيدة النثر من نشر الرد المناسب على ذلك الهجوم القاسي بحق قصيدة النثر والذي يبدو أنَّهُ كان مرتَّباً؛ لم يجدوا أية صحيفة تستقبل ردودهم فآثروا الاحتجاج في جلساتهم الصاخبة، وحين وصلت لهم التهديدات المبطنة من قبل موظفي نادي الأدباء؛ لزموا الصمت خشية على أعناقهم الطرية مع الإشاعات الخطيرة التي هيمنت في ذلك الوقت من كون هذا الجيل هدفه تخريب الثقافة السلطوية والتعبوية؛ انتقاماً من وضعهم المأساوي في الحرب. هكذا عاش شعراء الثمانينات تحت هواجس فظيعة من الخوف والهلع؛ ولما كان مهرجان المربد يشكل لهم رافداً حيوياً للالتقاء مع شعراء عرب، يمكن من خلاله طرح مشروعهم الحداثي في قصيدة النثر، بيد أنَّ الأوامر العسكرية ومعارك الجبهات كانت تحول بينهم وبين ما يتوقون إليه، فانبرى منتدى الأدباء بالخفاء وقام بدعوة شعراء الثمانينات إلى المربد بمغامرة محفوفة بالمخاطر؛ إذْ خوَّل لنفسه مهمة دعوة الشعراء الجنود من جبهات الحرب من دون علم الوزارة واتحاد الأدباء؛ وأخذ يطبع الدعوات لهم سرَّاً ليسهل مهمة وصولهم إلى مهرجان المربد وكان الشاعر عدنان الصائغ من يوزع تلك الدعوات؛ مما سببَّ ضيقاً واضحاً لشعراء الصالونات الأنيقة الذين كانوا يغرفون من كل حدب وصوب، بينما كان الثمانينيون يجوبون أروقة المهرجان ببطون خاوية وجيوب تشكو من الإفلاس. وهنا كانت مغامرة الشاعر سلام كاظم عندما نظَّمَ مع الشاعر محمد مظلوم مهرجاناً على هامش المربد لقصيدة النثر في الطابق الثالث من بناية السينما والمسرح؛ فأتيحت فرصة ثمينة لشعراء الثمانينات من قراءة نصوصهم، إذ كان من المحال صعودهم على منصة المربد؛ فيما أدرك الشعراء العرب أنَّ هناك قصيدة نثر جامحة قادمة من جبهات الحرب وتتوهج بعيداً عن أنظار السلطة الثقافية.