الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الشاعر‭ ‬والبلاد‭ (‬5‭)‬

بواسطة azzaman

الشاعر‭ ‬والبلاد‭ (‬5‭)‬

حسن‭ ‬النواب‭ ‬

 

في‭ ‬ذلك‭ ‬الجو‭ ‬الزيتوني‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬مُهيمناً‭ ‬على‭ ‬بوصلة‭ ‬ومسارات‭ ‬الثقافة‭ ‬العراقية،‭ ‬والتبختر‭ ‬الواضح‭ ‬للعيان‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬رعيَّة‭ ‬عبد‭ ‬الجبار‭ ‬محسن؛‭ ‬المشرف‭ ‬على‭ ‬الصحافة‭ ‬العسكرية‭ ‬مع‭ ‬مهمته‭ ‬اليومية‭ ‬بتزويق‭ ‬بيانات‭ ‬الحرب؛‭ ‬كانت‭ ‬وحدته‭ ‬العسكرية‭ ‬تتلقَّى‭ ‬التدريب‭ ‬في‭ ‬تكريت،‭ ‬بعد‭ ‬تدمير‭ ‬معظم‭ ‬دباباتها‭ ‬في‭ ‬معركة‭ ‬شرق‭ ‬البصرة؛‭ ‬وكان‭ ‬الأمر‭ ‬العسكري‭ ‬بعودتها‭ ‬من‭ ‬مخفر‭ ‬بوبيان‭ ‬لإعادة‭ ‬التنظيم‭ ‬أشبه‭ ‬بالمعجزة،‭ ‬مما‭ ‬مهَّد‭ ‬الطريق‭ ‬أمامه‭ ‬للقدوم‭ ‬نهاية‭ ‬كل‭ ‬أسبوع‭ ‬شوقاً‭ ‬ولهفةً‭ ‬لرؤية‭ ‬أصدقائه‭ ‬الأدباء‭ ‬في‭ ‬مقهى‭ ‬حسن‭ ‬عجمي،‭ ‬وخلال‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬استهوتهُ‭ ‬حالة‭ ‬الغياب‭ ‬عن‭ ‬وحدته‭ ‬العسكرية‭ ‬طمعاً‭ ‬بكأس‭ ‬عرق‭ ‬مضاف‭ ‬آخر‭ ‬الليل‭ ‬في‭ ‬نادي‭ ‬الأدباء‭ ‬مع‭ ‬تشجيع‭ ‬منقطع‭ ‬النظير‭ ‬من‭ ‬صديقه‭ ‬الشاعر‭ ‬الغجري‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬متغيِّباً‭ ‬هو‭ ‬الآخر‭ ‬عن‭ ‬وحدته‭ ‬العسكرية‭ ‬في‭ “‬سدي‭ ‬كان‭”‬،‭ ‬إذْ‭ ‬كان‭ ‬يدخل‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مساء‭ ‬إلى‭ ‬نادي‭ ‬الأدباء‭ ‬مرتدياً‭ ‬ملابسه‭ ‬العسكرية‭ ‬وحقيبته‭ ‬البائسة‭ ‬على‭ ‬ظهره‭ ‬بمحاولة‭ ‬لطرد‭ ‬الشبهات‭ ‬عنهُ؛‭ ‬وهو‭ ‬يردِّد‭ ‬بصوت‭ ‬جهوري‭ ‬لكي‭ ‬يسمعهُ‭ ‬أدباء‭ ‬الزيتوني‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يلاحقون‭ ‬سكناته‭ ‬وحركاته‭:‬

‭- ‬لم‭ ‬أتمكَّن‭ ‬من‭ ‬الالتحاق‭ ‬بوحدتي‭.‬

وقبل‭ ‬أنْ‭ ‬يستردّ‭ ‬أنفاسه‭ ‬يرشقهُ‭ ‬أحدهم‭ ‬بعبارةٍ‭ ‬لئيمة‭:‬

‭- ‬شَرَّفْ‭ ‬الهارب؟‭ ‬

‭-  ‬والله‭ ‬العظيم؛‭ ‬أزمة‭ ‬نقل‭ ‬في‭ ‬كراج‭ ‬النهضة‭.‬

‭- ‬هذه‭ ‬حجَّة‭ ‬واهية؛‭ ‬طالما‭ ‬سمعناها‭ ‬منك‭.‬

فيرتبكُ‭ ‬الغجري‭ ‬ويكرع‭ ‬كأسه‭ ‬على‭ ‬عجل‭ ‬ليعيد‭ ‬الثقة‭ ‬إلى‭ ‬قلبه‭ ‬الراجف؛‭ ‬فيما‭ ‬يسمع‭ ‬صوتاً‭ ‬زيتونياً‭ ‬يهدِّدهُ‭:‬

‭- ‬أمامك‭ ‬ساعة‭ ‬لتغادر‭ ‬المكان،‭ ‬وإلا‭ ‬نستدعي‭ ‬مفرزة‭ ‬الانضباط‭ ‬العسكري‭.‬

يلوذ‭ ‬الغجري‭ ‬بركن‭ ‬قصي‭ ‬من‭ ‬النادي،‭ ‬يتساءل‭ ‬بيأسٍ‭ ‬وبصوت‭ ‬لا‭ ‬يسمعهُ‭ ‬سوى‭ ‬أترابه‭: ‬

‭- ‬هل‭ ‬نادي‭ ‬الأدباء‭ ‬مُلك‭ ‬آبائكم؟

ثم‭ ‬يردف‭ ‬ساخطاً‭:‬

‭- ‬هم‭ ‬يشربون‭ ‬الجِعة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ليلة،‭ ‬ونحن‭ ‬نأكل‭ ‬خراء‭ ‬في‭ ‬الجبهة؛‭ ‬أولاد‭ ‬الكلب‭. ‬

وبنظرة‭ ‬عجلى‭ ‬لاستطلاع‭ ‬الوجوه؛‭ ‬ترى‭ ‬عيون‭ ‬أتراب‭ ‬الغجري‭ ‬وقد‭ ‬التمعت‭ ‬بالدمع،‭ ‬وهم‭ ‬الأدباء‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬ناقة‭ ‬لهم‭ ‬ولا‭ ‬جمل‭ ‬بثقافة‭ ‬الزيتوني؛‭ ‬منهم‭ ‬الشاعر‭ ‬زيارة‭ ‬مهدي‭ ‬الذي‭ ‬كاد‭ ‬يقذف‭ ‬الزيتوني‭ ‬السمين‭ ‬بالكأس‭ ‬لولا‭ ‬توسلات‭ ‬الغجري‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬يفتح‭ ‬بوابة‭ ‬جهنم‭ ‬ونباحه‭ ‬عليه‭. ‬كانت‭ ‬موائد‭ ‬أدباء‭ ‬الزيتوني‭ ‬مزدحمة‭ ‬بما‭ ‬لذَّ‭ ‬وطاب‭ ‬من‭ ‬طعام‭ ‬وشراب‭ ‬ذهبي،‭ ‬بينما‭ ‬أدباء‭ ‬الظل‭ ‬والجبهات‭ ‬لا‭ ‬يشربون‭ ‬سوى‭ ‬حليب‭ ‬السباع‭ ‬الرديء‭ ‬والذي‭ ‬يحصلون‭ ‬عليه‭ ‬بعد‭ ‬توسلات‭ ‬لشحة‭ ‬النقود‭ ‬في‭ ‬جيوبهم؛‭ ‬إذْ‭ ‬اضطر‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬لشدَّة‭ ‬عوزه‭ ‬من‭ ‬بيع‭ ‬حلية‭ ‬آية‭ ‬الكرسي‭ ‬الذهبية‭ ‬التي‭ ‬أهدتهُ‭ ‬إيَّاها‭ ‬أمه‭ ‬بعد‭ ‬خروجه‭ ‬من‭ ‬معركة‭ ‬شرق‭ ‬البصرة‭ ‬سالماً،‭ ‬وقد‭ ‬طافت‭ ‬بها‭ ‬مزارات‭ ‬الأولياء‭ ‬والصالحين‭ ‬ثم‭ ‬علقتها‭ ‬بعنقه‭ ‬والدمع‭ ‬يسيح‭ ‬على‭ ‬وجهها‭ ‬الذابل‭ ‬من‭ ‬التعب،‭  ‬وكانت‭ ‬قد‭ ‬ادَّخرتْ‭ ‬ثمنها‭ ‬من‭ ‬مرتبها‭ ‬الشهري‭ ‬الذي‭ ‬تحصل‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬عملها‭ ‬كفرَّاشةٍ‭ ‬في‭ ‬مدرسة،‭ ‬نعم‭ ‬باع‭ ‬آية‭ ‬الكرسي‭ ‬تعويذة‭ ‬أمه‭ ‬على‭ ‬أحد‭ ‬أدباء‭ ‬الزيتوني‭ ‬بعشرة‭ ‬دنانير‭ ‬لكي‭ ‬يسدِّد‭ ‬ما‭ ‬بذمته‭ ‬من‭ ‬ديون‭ ‬وليتسنى‭ ‬له‭ ‬ولأترابه‭ ‬من‭ ‬تناول‭ ‬خمرهم‭ ‬الرخيص‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬منغصات،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬عملية‭ ‬بيع‭ ‬عادلة؛‭ ‬فالوجه‭ ‬الخفي‭ ‬منها‭ ‬هو‭ ‬رشوة‭ ‬ذلك‭ ‬الأديب‭ ‬الزيتوني‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يستدعي‭ ‬مفرزة‭ ‬الانضباط‭ ‬ويقعون‭ ‬في‭ ‬المحظور،‭ ‬فجلَّهم‭ ‬كان‭ ‬أمَّا‭ ‬هارباً‭ ‬أو‭ ‬متغيباً‭ ‬من‭ ‬جبهات‭ ‬الحرب‭. ‬وفي‭ ‬حُمَّى‭ ‬تلك‭ ‬الليلة‭ ‬وقبل‭ ‬انصراف‭ ‬الأديب‭ ‬الزيتوني‭ ‬من‭ ‬النادي‭ ‬قال‭ ‬لصديق‭ ‬الغجري‭ ‬بخبث‭:‬

‭- ‬قلادتك‭ ‬ستكون‭ ‬من‭ ‬نصيب‭ ‬امرأة‭ ‬تشاركني‭ ‬السرير‭ ‬هذه‭ ‬الليلة‭.‬

مادتْ‭ ‬الأرض‭ ‬بصديق‭ ‬الغجري‭ ‬من‭ ‬الحنق؛‭ ‬وفرَّ‭ ‬الخمر‭ ‬دفعة‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬فمه؛‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬خمراً‭ ‬إنَّما‭ ‬دماً‭ ‬صبغ‭ ‬المائدة،‭ ‬وأخذ‭ ‬يصرخ‭ ‬بلا‭ ‬هوادة‭:‬

‭- ‬إكلاوات؛‭ ‬إكلاوات؛‭ ‬كلكم‭ ‬إكلاوات‭. ‬

لم‭ ‬تكن‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬قوة‭ ‬تقف‭ ‬أمام‭ ‬جبروت‭ ‬كرامته‭ ‬التي‭ ‬سعى‭ ‬ذلك‭ ‬الأديب‭ ‬الزيتوني‭ ‬إلى‭ ‬إذلالها؛‭ ‬فبصق‭ ‬عليه‭ ‬فيما‭ ‬تجمَّع‭ ‬حولهُ‭ ‬المخبرون‭ ‬والفضوليون؛‭ ‬سحلوا‭ ‬جثته‭ ‬إلى‭ ‬الشارع‭ ‬والكدمات‭ ‬طرَّزت‭ ‬من‭ ‬لكمات‭ ‬قبضاتهم‭ ‬العنيفة‭ ‬خارطة‭ ‬وجهه‭ ‬وتركت‭ ‬منجم‭ ‬أسى‭ ‬في‭ ‬كيانه؛‭ ‬وقبل‭ ‬وصول‭ ‬عجلة‭ ‬الشرطة‭ ‬انتشلهُ‭ ‬فتى‭ ‬قصير‭ ‬القامة‭ ‬ليضعه‭ ‬في‭ ‬مقعد‭ ‬خلفي‭ ‬من‭ ‬سيارة‭ ‬أجرة‭ ‬وانطلقت‭ ‬بهما‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬الثورة،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬يعرف‭ ‬هوية‭ ‬الذي‭ ‬أنقذهُ،‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬لوحةٍ‭ ‬معلَّقةٍ‭ ‬على‭ ‬جدار‭ ‬الغرفة‭ ‬في‭ ‬منزله‭ ‬البسيط،‭ ‬أدرك‭ ‬أنَّهُ‭ ‬في‭ ‬ضيافة‭ ‬فتى‭ ‬أحمر؛‭ ‬إذْ‭ ‬كانت‭ ‬حمامة‭ ‬السلام‭  ‬لبيكاسو‭ ‬مشعَّةً‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللوحة؛‭ ‬طبع‭ ‬قبلةً‭ ‬مليئة‭ ‬بالشجن‭ ‬على‭ ‬وجهه‭ ‬وقال‭ ‬يواسيه‭:‬

‭- ‬سيأتي‭ ‬اليوم‭ ‬الذي‭ ‬نمرِّغ‭ ‬رأس‭ ‬ذلك‭ ‬الأديب‭ ‬الزيتوني‭ ‬بالوحل‭.‬

أجهش‭ ‬صديق‭ ‬الغجري‭ ‬بالبكاء،‭ ‬فيما‭ ‬طلب‭ ‬الفتى‭ ‬الأحمر‭ ‬منهُ‭ ‬الخلود‭ ‬إلى‭ ‬النوم‭. ‬عند‭ ‬الصباح‭ ‬عرف‭ ‬أنَّهُ‭ ‬بضيافة‭ ‬الفنان‭ ‬المسرحي‭ ‬ماجد‭ ‬درندش‭.‬

 


مشاهدات 185
الكاتب حسن‭ ‬النواب‭ ‬
أضيف 2024/03/04 - 6:30 PM
آخر تحديث 2024/05/20 - 8:26 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 159 الشهر 7836 الكلي 9345874
الوقت الآن
الإثنين 2024/5/20 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير