حسن النواب
في ذلك الجو الزيتوني الذي كان مُهيمناً على بوصلة ومسارات الثقافة العراقية، والتبختر الواضح للعيان من قبل رعيَّة عبد الجبار محسن؛ المشرف على الصحافة العسكرية مع مهمته اليومية بتزويق بيانات الحرب؛ كانت وحدته العسكرية تتلقَّى التدريب في تكريت، بعد تدمير معظم دباباتها في معركة شرق البصرة؛ وكان الأمر العسكري بعودتها من مخفر بوبيان لإعادة التنظيم أشبه بالمعجزة، مما مهَّد الطريق أمامه للقدوم نهاية كل أسبوع شوقاً ولهفةً لرؤية أصدقائه الأدباء في مقهى حسن عجمي، وخلال تلك الفترة استهوتهُ حالة الغياب عن وحدته العسكرية طمعاً بكأس عرق مضاف آخر الليل في نادي الأدباء مع تشجيع منقطع النظير من صديقه الشاعر الغجري الذي كان متغيِّباً هو الآخر عن وحدته العسكرية في “سدي كان”، إذْ كان يدخل في كل مساء إلى نادي الأدباء مرتدياً ملابسه العسكرية وحقيبته البائسة على ظهره بمحاولة لطرد الشبهات عنهُ؛ وهو يردِّد بصوت جهوري لكي يسمعهُ أدباء الزيتوني الذين كانوا يلاحقون سكناته وحركاته:
- لم أتمكَّن من الالتحاق بوحدتي.
وقبل أنْ يستردّ أنفاسه يرشقهُ أحدهم بعبارةٍ لئيمة:
- شَرَّفْ الهارب؟
- والله العظيم؛ أزمة نقل في كراج النهضة.
- هذه حجَّة واهية؛ طالما سمعناها منك.
فيرتبكُ الغجري ويكرع كأسه على عجل ليعيد الثقة إلى قلبه الراجف؛ فيما يسمع صوتاً زيتونياً يهدِّدهُ:
- أمامك ساعة لتغادر المكان، وإلا نستدعي مفرزة الانضباط العسكري.
يلوذ الغجري بركن قصي من النادي، يتساءل بيأسٍ وبصوت لا يسمعهُ سوى أترابه:
- هل نادي الأدباء مُلك آبائكم؟
ثم يردف ساخطاً:
- هم يشربون الجِعة في كل ليلة، ونحن نأكل خراء في الجبهة؛ أولاد الكلب.
وبنظرة عجلى لاستطلاع الوجوه؛ ترى عيون أتراب الغجري وقد التمعت بالدمع، وهم الأدباء الذين لا ناقة لهم ولا جمل بثقافة الزيتوني؛ منهم الشاعر زيارة مهدي الذي كاد يقذف الزيتوني السمين بالكأس لولا توسلات الغجري كي لا يفتح بوابة جهنم ونباحه عليه. كانت موائد أدباء الزيتوني مزدحمة بما لذَّ وطاب من طعام وشراب ذهبي، بينما أدباء الظل والجبهات لا يشربون سوى حليب السباع الرديء والذي يحصلون عليه بعد توسلات لشحة النقود في جيوبهم؛ إذْ اضطر صديق الغجري لشدَّة عوزه من بيع حلية آية الكرسي الذهبية التي أهدتهُ إيَّاها أمه بعد خروجه من معركة شرق البصرة سالماً، وقد طافت بها مزارات الأولياء والصالحين ثم علقتها بعنقه والدمع يسيح على وجهها الذابل من التعب، وكانت قد ادَّخرتْ ثمنها من مرتبها الشهري الذي تحصل عليه من عملها كفرَّاشةٍ في مدرسة، نعم باع آية الكرسي تعويذة أمه على أحد أدباء الزيتوني بعشرة دنانير لكي يسدِّد ما بذمته من ديون وليتسنى له ولأترابه من تناول خمرهم الرخيص من دون منغصات، لم تكن عملية بيع عادلة؛ فالوجه الخفي منها هو رشوة ذلك الأديب الزيتوني حتى لا يستدعي مفرزة الانضباط ويقعون في المحظور، فجلَّهم كان أمَّا هارباً أو متغيباً من جبهات الحرب. وفي حُمَّى تلك الليلة وقبل انصراف الأديب الزيتوني من النادي قال لصديق الغجري بخبث:
- قلادتك ستكون من نصيب امرأة تشاركني السرير هذه الليلة.
مادتْ الأرض بصديق الغجري من الحنق؛ وفرَّ الخمر دفعة واحدة من فمه؛ لم يكن خمراً إنَّما دماً صبغ المائدة، وأخذ يصرخ بلا هوادة:
- إكلاوات؛ إكلاوات؛ كلكم إكلاوات.
لم تكن هناك من قوة تقف أمام جبروت كرامته التي سعى ذلك الأديب الزيتوني إلى إذلالها؛ فبصق عليه فيما تجمَّع حولهُ المخبرون والفضوليون؛ سحلوا جثته إلى الشارع والكدمات طرَّزت من لكمات قبضاتهم العنيفة خارطة وجهه وتركت منجم أسى في كيانه؛ وقبل وصول عجلة الشرطة انتشلهُ فتى قصير القامة ليضعه في مقعد خلفي من سيارة أجرة وانطلقت بهما إلى مدينة الثورة، لم يكن صديق الغجري يعرف هوية الذي أنقذهُ، ولكن من لوحةٍ معلَّقةٍ على جدار الغرفة في منزله البسيط، أدرك أنَّهُ في ضيافة فتى أحمر؛ إذْ كانت حمامة السلام لبيكاسو مشعَّةً في تلك اللوحة؛ طبع قبلةً مليئة بالشجن على وجهه وقال يواسيه:
- سيأتي اليوم الذي نمرِّغ رأس ذلك الأديب الزيتوني بالوحل.
أجهش صديق الغجري بالبكاء، فيما طلب الفتى الأحمر منهُ الخلود إلى النوم. عند الصباح عرف أنَّهُ بضيافة الفنان المسرحي ماجد درندش.