الأيام الإسطنبولية مقالات تمشي على الارض
كاظم المقدادي
عندما نرى ونشاهد ونبصر ما يقع امامنا، يبدأ حوارنا مع الذات، وعندما نسمع يبدأ الحوار مع الآخر. لذلك اتخذت الاديان طابعاً سمعياً هلامياً، بينما استقرت الحضارات معتمدة طابعها البصري فطرياً، ولهذا سجل الفلاسفة التجريبيون من الذين انشغلوا بالإدراك الحسي خطوات مهمة على حساب الفلاسفة العقلانيين الذين تمسكوا بالعقل دون الاهتمام بالحواس الخمس التي اعطت بعداً ادراكياً، وركناً حسياً من اركان الفلسفة. وكما يقول فيلسوف قرطبة ابن رشد: « ان الله لا يمكن ان يعطينا عقولاً، ثم يعطينا شرائع مخالفة لها». والمدن لها شرائعها بجلال النهار، وهي شرائع تحفز العقل على الكتابة والوصف والابتكار.
مقدمة قصيرة
اردتُ بهذه المقدمة القصيرة القول، إن للمدن مكانها وزمانها ورجالها وحضاراتها، وقوتها وضعفها، والكتابة عنها يشكل تكويناً معرفياً من الكتابات التي تُدرج في باب عجائب الأسفار، كما فعل المغاربي ابن بطوطة، وكما اجتهد المصري رفاعة الطهطاوي في كتابه الأثير « تخليص الابريز في تلخيص باريز».
كتاب الزميل الدكتور الفيلسوف طه جزّاع ضم بين دفتيه مجموعة متوهجة من المقالات الصحافية التي تدور داخل المدن وخارج اسوارها، وهي تتنفس وتعيش بهوائها وانهارها وبحارها . كتاب « الأيام الإسطنبولية « وعلى الرغم من انه لم يكن مخصصاً لإسطنبول وحدها ولا حتى لتركيا والدولة العثمانية، كما فعلتُ انا في كتابي الأخير» السلطانة إسطنبول» إلّا أنه غذى مقالاته التي توزعت بين بغداد وبيروت وباريس وعمان واربيل، بمقالات مهمة عن ايامه الإسطنبولية، لعشقه لعاصمة السلاطين، التي وصلها بعد حين، سائحاً ثم مقيماً، كما فعل غيره من العراقيين الذين تجاوز عددهم اكثر من نصف مليون، توزعوا على مدن تركيا مجتمعة.
ما احتواه هذا الكتاب، يذكرنا بنتاج الكتاب العرب والعراقيين الذين كتبوا مقالات عن اسفارهم ورحلاتهم، وهو قد لا ينتمي الى ادب الرحلة، فقد اختار الكاتب له في مقدمة الكتاب (جورجيا لؤلؤة القوقاز) اسماً جديداً « صحافة الرحلات « وهو وصف دقيق سبق للزميل د. أحمد عبد المجيد أن نبه له للإشارة إلى مقالات صحافية متنوعة ودسمة، زاخرة بالأفكار والمعلومات والتعليقات، تقرب من مقالات سلامة موسى، وأنيس منصور، وعلي أمين ، ومصطفى أمين وسواهم .ومن الصفحات الاولى وحتى الصفحة الأخيرة لهذا الكتاب الصادر عن دار «خواطر للطباعة والنشر « في إسطنبول، يتحفنا الكاتب بكم هائل من المعلومات تتساقط علينا رطباً جنياً، خواطر ونوادر واخبار وافكار، ومواقف لشخصيات يعرفها، وعاش معها، تشكل جميعها خريطة علمية فلسفية ثقافية رسمها بجدارة، مؤشراً بنقاط ملونة جميع المدن والديار والبحار والمناطق التي زارها وتوقف عندها.
مكتنزة بالمفاجأت
ان كل مقالة من مقالات الكاتب، تأتينا مكتنزة ، لا تخلو من المفاجآت، وتكاد تكون اقرب الى قصة قصيرة، بشخوصها ومكانها، وبفضاءاتها الزمنية، ومناخاتها العلمية، واحداثها الواقعية، لتشكل جميعها اضافة نوعية لجهد الكاتب الذي رصد مشاهداته بلغة رصينة تخلو من الأنشاء، وتتحدث في كل الأشياء، من الفلسفة الى العلوم، ومن الرياضة الى الطرب والفنون، والحديث عن النجوم: نزار قباني، ونجاة الصغيرة، وعبد الحليم حافظ، وما حدث له مع الملك الحسن الثاني وعبد الناصر، وايضاً عن زملاء الكاتب، من الذين عاشوا معه وعاصروه، وكتبوا كما كتب، وابدعوا مثلما هو ابدع، ولم يكن بخيلاً على أحد، من كاتب هذه السطور الذي خصص له مقالة « المقدادي .. باريس والحب المستحيل» وهي مقالة تفوح بالعطر الباريسي والبخور البغدادي، الى الصحافية والروائية المعروفة إنعام كجه جي، ومقالة « جواد سليم وطائرة الباشا « ومهمتها في البحث عن المعلومة، التي اجبرتها على السفر من باريس الى ريف لندن، بحثاً عن لورنا زوجة الفنان والنحات الكبير جواد سليم.
أما مقالة « يوم نزل رباح الى جرف النهر» فيخصصها لصديقه الكاتب البارع رباح آل جعفر، ومقالة اخرى عن عبد الهادي مهودر وكتابه عن احتلال الصحافة، ولم ينس ابداً المرور بكل شاردة وواردة تخص القريب والبعيد، والمنسي والمجيد، وبذلك يتحول طه جزّاع الى بنك للمعلومات، وهي بحق معلومات هائلة مفيدة وفريدة.
اختار الكاتب ان تكون فاتحة كتابه عن اسطنبول يوم وصلها لأول مرة في تموز 2013، وكيف أن سائق التكسي الاسطنبولي الذي طلب منه أن يوصله من مطار اتاتورك الى ساحة تقسيم لكونها أشهر المناطق التي يتوجه اليها السواح، لكنه نصحه بالذهاب بدلاً من ذلك الى منطقة السلطان احمد وجامعه الأزرق، الذي يقابل كنيسة آيا صوفيا، مع وجود متحف الباب العالي ومضمار السباق البيزنطي.وما يشتمله على مقتنيات وآثار حضارية إسلامية، ويقول الكاتب إن سائق التاكسي كان محقاً، بعد ان وجدها مكتنزة بالشواهد التاريخية لمدينة القسطنطينية عاصمة البيزنطيين التي بناها قسطنطين الأول سنة 335 للميلاد مؤسساً بذلك اول امبراطورية شرقية تمثل امتداداً للإمبراطورية الرومانية.
ولم يكتفِ بنقل مشاهداته الاولية عن هذه المنطقة التاريخية الرائعة الغنية بالشواهد الحضارية، وبالواقع الحضري الفريد، بل راح يبحث عن كل الذين كتبوا عن اسطنبول من الكُّتاب الاتراك « السوداويون» بشكل خاص، ومنهم الشاعر الكبير ناظم حكمت الذي سخر من الضابط العاشق بيير لوتي، والروائي أورهان باموق الذي اصدر كتابه المهم عن « إسطنبول المدينة والذكريات»، وبقية الكتاب الذين يصفهم باموق بالسوداويين، ومنهم رشاد اكرم، واحمد حمدي .
نزوح مريم
ثم يتوقف الكاتب عند الروائي السوري محمود حسن الجاسم ، صاحب رواية « نزوح مريم» الذي كتب مقالة عن اسطنبول المدينة بأعجاب مثير، واصفاً اياها بانها لاتشبه المدن العربية ولا حتى المدن التركية نفسها، ومؤكداً ان الذي يعيش فيها، يشعر أن العالم مازال بخير، لكنه يفصح في مقالته عن خوف السوريين المقيمين في تركيا من الايام العصيبة التي رافقت ملابسات انقلاب 15 تموز من عام 2016 الذي قام به العلمانيون لإسقاط تجربة حزب العدالة والتنمية ورئيسه اردوغان.في دفة هذا الكتاب، وفي فضائه الإيقاعي الموزون، نعثر على الكثير من المقالات المهمة التي تكشف بعض المعلومات، منها كشف سر الاختلاف بين الشاعر العراقي معروف الرصافي والمفكر المصري طه حسين، وهو الاختلاف المتعلق بلزوميات ابي العلاء المعري، وبكتاب طه حسين « مع ابي العلاء في سجنه»، وكتاب الرصافي : «على باب سجن ابي العلاء».
وقد قدم الباحث محمد علي الزرقا، دراسة عن كتاب الرصافي ملحقة بنص كتاب طه حسين. وتذكرنا كتب المواجهات والسجالات هذه بأهم الاختلافات التي حصلت بعد صدور كتاب ابي حامد الغزالي « تهافت الفلاسفة»، ورد ابن رشد على الغزالي بكتاب « تهافت التهافت».
ومن المقالات المهمة والنادرة التي قدمها لنا الكاتب، تلك المتعلقة بالفيلسوف البريطاني برتراند رسل الذي تقدم بطلب الى هارولد ويلسون زعيم المعارضة العمالية بالحصول على اذن الاقامة للمواطن العراقي خالد احمد زكي. وفي مقالة «ما معنى ان تستقبلني بلادي جثة ؟ «، يتحدث عن وفاة المعلق الرياضي الشهير مؤيد البدري الذي وافاه الأجل في مغتربه الاسكتلندي، وهي بحق مقالة تنزف دماً على مصير المبدعين العراقيين من شعراء وادباء وعلماء، الذين يموتون في الخارج، مثل الجواهري والبياتي وسعدي يوسف وعبد الرزاق عبد الواحد ونازك الملائكة ولميعة عباس عمارة وخليل شوقي، وعوني كرومي وزها حديد وغيرهم.
ولأن الدكتور طه، وبعد نشر كتابه عن التنين الصيني صار خبيراً بالشؤون الصينية، فقد امتعنا بحسه الفكاهي في مقالة «سنوات نزار قباني في الصين» ملاحظاً ان الشاعر الدمشقي الرومانسي نزار قباني يظهر مع نجاة الصغيرة بالأسود والابيض، وبشارب غير حليق، وهو يقرأ لنجاة رائعته أيظنُ .
وفي مقال « راتب العلوي وراتب ما وتسي تونغ»، نعرف أن عَّراب الصين العلامة البغدادي الشيخ جلال الحنفي هو الذي اختار هادي العلوي ليحل محله سفيراً ثقافياً وحضارياً الى عاصمة التنين. ثم يعود الكاتب مرة اخرى الى الديار التركية في نهايات كتابه، ليضع لنا عنواناً لا يخلو من مرح « طرزان في غابات مانيسا»، وكأنه يريد ان يخفف علينا ثقل المعلومات ووزن كتابه الموثق والمسلح بالمعرفة. والمعرفة قوة كما يؤكد فرانسيس بيكون فيلسوف الثورة الصناعية في بريطانيا، فيكتب عن الباحث العراقي نعمان الهيمص، وهو ينقل صورة جميلة ساحرة في كتابه « العابرون .. حكايات لا تعود».
لكن بغداد والشعراء والحنين الذي يجرفه الى « حُّراس الذاكرة البغدادية «، ومقالات كثيرة ومثيرة، مشوقة وممتعة عن امانة بغداد وامينها الاول صبيح نشأت، وعن «حامل صندوق العجائب» والضابط البريطاني فيلكس جونز الذي وضع خريطة ادارية دقيقة وواضحة لبغداد، محلاتها وأزقتها وشوارعها وساحاتها ومحالها التجارية.
هذا الضابط ذكرني بالضابط الفرنسي العاشق بيير لوتي الذي اعتاد أن يستذكر معشوقته التركية فوق تلة مرتفعة قرب ضريح الصحابي أبو أيوب الأنصاري الذي شارك في المحاولة الأولى للمسلمين لفتح القسطنطينية، قبل أن يأتي السلطان الشاب محمد الفاتح، ليكون نعم الأمير اميرها، والرمز للقادة المسلمين، وهي نبوءة النبي محمد لأصحابه المقربين.