
![]() | |
![]() ![]() | |
![]() ![]() ![]() ![]() |
|
![]() | |
![]() | |
النـص : مقالة منع الأدب لجورج أورويل (1) ترجمة: نواف شاذل طاقة تعد مقالة "منع الأدب" واحدة من أهم المقالات السياسية التي كتبها الروائي والصحافي البريطاني جورج أورويل (1903ـ1950 ) والتي عبر فيها بكل صراحة وجرأة عن مواضيع شغلت وما برحت تشغل الرأي العام. يعرض أورويل، واسمه الحقيقي إريك آرثر بلير، في هذه المقالة التي صدرت مطلع عام 1946 موقفه من الحرية الفكرية بوجه عام، ومن حرية الصحافة في المملكة المتحدة بشكل خاص، والدور الذي يمارسه أباطرة الصحافة الأثرياء والهيئات الحكومية في تقييد الحرية الفكرية في بلاده، من دون أن يغفل تهاون المثقف وبالتالي مسؤوليته عن غياب الحريات. إلى ذلك يشن أورويل هجوماً حاداً على الحزب الشيوعي الأم في الاتحاد السوفيتي، وعلى فرعه في بريطانيا، لدورهما في قمع الحريات، ويصف السياسات الشيوعية بأنها أشبه بالأنظمة الثيوقراطية (الدينية) التي تعتبر نفسها محصنة أمام الانتقادات، متهما الحركة الشيوعية في بلاده ببث ما وصفه بـ"الأساطير السامة" في أوساط المجتمع. منع الأدب لجورج أورويل إن الحرية الفكرية تعني حرية أن تكتب ما تراه وما تسمعه وما تشعر به وألاّ تكون مُجبراً على فبركة حقائق ومشاعر خيالية حضرتُ قبل نحو عام اجتماعاً لنادي P.E.N. بمناسبة الذكرى المئوية الثالثة لصدور خطاب ميلتون المعروف باسم آريوباجيتيكا Areopagitica ولعل من المناسب التذكير أن الخطاب المذكور كان قد صدر على شكل كُتيب دفاعاً عن حرية الصحافة. وقد طُبعت عبارة ميلتون الشهيرة حول خطيئة "قتل" الكتاب على ظهر المناشير التي وزعت للإعلان عن الاجتماع قبل انعقاده. كان ثمة أربعة متحدثين على المنصة. ألقى أحدهم كلمة تناولت حرية الصحافة، لكنها تطرقت إلى ما يتصل بحرية الصحافة بالهند فحسب؛ وقال آخر، بتردد، وبعبارات عامة جداً، إن حرية الصحافة أمر جيد؛ شن بعد ذلك متحدث ثالث هجوماً على القوانين ذات الصلة بالفحش في الأدب. أما المتحدث الرابع، فقد كرس معظم خطابه للدفاع عن عمليات التطهير الروسية. ومن بين الخُطب التي ألقيت داخل القاعة، عاد البعض إلى مسألة الفحش والقوانين التي تتناولها، واكتفى البعض الآخر بالتماس الأعذار لروسيا السوفيتية. وبدت الحرية الأخلاقية – حرية مناقشة المسائل الجنسية بشكل صريح في المطبوعات – مقبولة بشكل عام، غير أن الحرية السياسية لم تُذكر. ومن بين حشد هذا الحضور الذي ضم مئات الاشخاص، ربما نصفهم كان مرتبطاً بمهنة الكتابة، لم يكن بوسع أي شخص منهم أن يقول إن حرية الصحافة، إذا ما كانت تعني أي شيء على الإطلاق، تعني حرية الانتقاد والمعارضة. جدير بالذكر، أن ما من أحد من المتحدثين استشهد بما جاء في الكتيب الذي احتفل به الحضور ظاهرياً. كما لم ترد أية إشارة إلى الكتب المختلفة التي "قُتلت" في انكلترا والولايات المتحدة خلال الحرب. كان الاجتماع في محصلته النهائية تظاهرة لصالح الدفاع عن الرقابة. لم يكن ثمة شيء خاص يثير الدهشة في هذا الحدث. تتعرض فكرة الحرية الفكرية في عصرنا هذا إلى هجوم من اتجاهين. الأول، هناك الأعداء النظريون، الذين يدافعون عن الأنظمة الشمولية. وفي الجانب الثاني، هناك أعداؤها العمليون والمباشرون، وهم الاحتكار والبيروقراطية. إن أي كاتب أو صحفي يرغب بالحفاظ على نزاهته سيجد نفسه محبطاً بسبب الانحراف العام للمجتمع وليس بسبب الاضطهاد القائم فعلياً. هذا وتشمل طبيعة الأمور التي تقف عائقاً في طريق هؤلاء، تمركز الصحافة بأيدي قلة من الرجال الاثرياء واحكام قبضة الاحتكار على الاذاعة والافلام وعدم رغبة الجمهور في انفاق المال على الكتب، الأمر الذي يجعل من الضروري على كل كاتب تقريباً أن يكسب جزءًا من رزقه من خلال الكتابات الروتينية الخالية من الابداع، والتطفل على الهيئات الحكومية كوزارة الثقافة والمجلس الثقافي البريطاني، اللتين تساعدان على بقاء الكاتب على قيد الحياة ولكنهما تعملان على هدر وقته وتمليان عليه آراءهما، ناهيك عن أجواء الحرب المتواصلة خلال السنوات العشر الأخيرة، التي لم يتمكن أحد من الإفلات من آثارها المشوِهة. كل شيء في عصرنا يتحايل من أجل تحويل الكاتب، وتحويل الفنانين الآخرين على اختلاف صنوفهم، إلى موظف ثانوي، يعمل على وفق مفاهيم يتلقاها من الأعلى ولا تقول له إطلاقاً كل الحقيقة. وفي صراعه ضد قدره، لا يتلقى الكاتب أي دعم من عصبته؛ بعبارة أخرى، لا توجد أية هيئة استشارية فاعلة تطمئنه بأنه على الجانب الصواب. في الماضي، على أية حال، طيلة قرون عهد البروتستانية، اختلطت فكرة التمرد مع فكرة النزاهة الفكرية. وكان المنشق عن العقيدة – إنْ كان من رجال السياسة أو الأخلاق أو الدين أو علم الجمال – شخصاً رفض خيانة ضميره. وتلخصت نظرته في كلمات الترنيمة الاحيائية التي تقول: تجرأ على أن تكون كدانيال تجرأ على أن تقف بمفردك تجرأ على أن يكون لديك هدف راسخ تجرأ على أن تعلن هدفك لغرض وضع هذه الترنيمة في سياق زمني جديد ينسجم مع زماننا، قد يكون على المرء أن يضيف مفردة "لا" إلى بداية كل سطر. وبسبب غرابة عصرنا الحالي، فان المتمردين على النظام القائم، بل أغلبهم ومعظم من يمثلون هذا التمرد، يتمردون أيضاً على فكرة النزاهة الفردية. تُعَد "الجرأة على وقوف المرء بمفرده" جريمة من الناحية الأيديولوجية فضلاً عما تحمله في طياتها من خطورة عملية. تتآكل استقلالية الكاتب والفنان على أيدي قوى اقتصادية خفية، وتتقوض في الوقت نفسه على أيدي أولئك الذين يفترض أن يكونوا مدافعين عنها. إلى ذلك، فان ما يهمني هنا هو المســــار الثاني. حرية الفكر تتعرض عادةً الحرية الفكرية وحرية الصحافة إلى الهجوم بحجج غير جديرة بالاهتمام. إن أي شخص جرب إلقاء المحاضرات والخوض في النقاشات يعرف هذا الامر تماماً. أنا لا أحاول هنا البحث في الزعم المعهود بأن الحرية وهم، أو الادعاء بأن الحرية في البلدان الشمولية أوسع مما هي عليه في البلدان الديمقراطية، لكني اتحدث عن مفهوم أكثر قبولاً وأشد خطورة مفاده بأن الحرية غير مرغوب بها وأن الأمانة الفكرية شكل من أشكال الأنانية المعادية للمجتمع. على الرغم من أن جوانب أخرى من هذه المسألة تقع عادة في مقدمة المواضيع المطروحة، لكن الجدل يدور حول حرية التعبير والصحافة اللتين تعدان جوهر الخلاف، والذي بدوره يتلخص بمسألة النزوع إلى الكذب. إن جوهر النقاش في هذه الحالة ينصب على الحق في الكتابة عن الأحداث المعاصرة بصدق، أو بأكبر قدر ممكن من الصدق يتسق مع حالات الجهل والتحيز وخداع الذات التي يعاني منها بالضرورة كل مراقب. بقولي هذا، قد أبدو وكأني أقول بشكل مباشر إن التقرير الصحفي "الريبورتاج" هو الفرع الادبي الوحيد ذو الأهمية: لكنني سأحاول في وقت لاحق أن أبيّن أن في كل صنف من صنوف الأدب، وربما في جميع صنوف الفن، تبرز، بشكل أو بآخر، المسألة ذاتها بصيغ أكثر وضوحاً. في غضون ذلك، من الضروري التخلص من الامور التي لا صلة لها بالموضوع والتي غالباً ما تكتنف هذا الجدل. يحاول أعداء الحرية الفكرية دائما إظهار قضيتهم وكأنها دعوة إلى الانضباط مقابل النزعة الفردية. وتُركَنْ، بالمقابل، مسألة الحقيقة مقابل اللاحقيقة في مكان بعيد قدر الإمكان. على الرغم من تعدد الجوانب ذات الصلة بالموضوع، فالكاتب الذي يرفض الترويج لأفكاره يوصف دائماً بأنه مجرد أناني. ويُتهم هذا الكاتب أما بأنه يرغب بعزل نفسه في برج عاجي، أو أنه يُظهر شخصيته الاستعراضية، أو أنه يقاوم تيار الحتمية التاريخية في محاولة منه للتشبث بامتياز غير مشروع. يتشابه الكاثوليكي والشيوعي في افتراضهما أن الخصم لا يمكن أن يكون أميناً وذكياً في آن واحد. ويزعم كلاهما ضمناً بأن "الحقيقة" سبق وأن اتضحت، وأن الزنديق، إذا لم يكن ببساطة أحمقاً، فانه يدرك سراً هذه "الحقيقة" ويكاد يقاومها بدوافع أنانية. في الأدبيات الشيوعية، يتخفى يتستر الهجوم على الحرية الفكرية عادةً وراء خطاب يدور حول "فردية البرجوازية الصغيرة"، و "أوهام ليبرالية القرن التاسع عشر"، إلخ، ويُدعم هذا الهجوم بكلمات مسيئة مثل "رومانسي" و "عاطفي"، والتي بما أنها لا تحتوي على معانٍ متفق عليها، تكون عصية على الرد. وبهذه الطريقة يجري الالتفاف على الجدل الدائر بعيداً عن جوهر القضية الحقيقية. وبوسع المرء أن يقبل النظرية الشيوعية، ومعظم المتنورين يقبلون بها، والتي مفادها بأن الحرية الحقة ستكون حاضرة فقط في مجتمع خال من الطبقات، وأن المرء يكاد أن يكون حراً عندما يعمل لتحقيق مثل ذاك المجتمع. لكن وسط هذا الجدل يتسلل الزعم الذي لا أساس له من الصحة بأن الحزب الشيوعي نفسه يهدف إلى تحقيق مجتمع خال من الطبقات، وأن هذا الهدف في طريقه إلى التحقق في الاتحاد السوفيتي. وإذا ما سمح للزعم الأول ان يُستتبع بالزعم الثاني، فان ذلك يعني أن ليس ثمة انقضاض على الفطرة السليمة وآداب التعامل الذي لا يمكن تبريره. لكن في خضم هذا الجدل المحتدم، يُغض الطرف عن نقطة الخلاف الرئيسية. إن الحرية الفكرية تعني حرية أن تكتب ما تراه وما تسمعه وما تشعر به، وألا تكون مُجبراً على فبركة حقائق ومشاعر خيالية. إن الخطابات المعهودة ضد "الهروب من الواقع" و "الفردية" و "الرومانسية" وما شابه ذلك تكاد تكون أداة جريمة تهدف إلى جعل تحريف التاريخ يبدو محترماً. قبل خمسة عشر عاماً، إذا أراد شخص ما الدفاع عن الحرية الفكرية، كان عليه أن يدافع عنها ضد المحافظين، وضد الكاثوليكيين، وإلى حد ما، ضد الفاشيين، الذين لم يكونوا على قدر كبير من الأهمية في انكلترا. أما اليوم فان على المرء أن يدافع عن الحرية الفكرية أمام الشيوعيين و"أنصارهم". يتعين عدم المبالغة في التأثير المباشر لحزب شيوعي بريطاني صغير، لكن ليس ثمة شك حول التأثير السام للأساطير الروسية على الحياة الثقافية الانكليزية. ولهذا السبب فان الحقائق المعروفة تتعرض للإخفاء والتشويه إلى حد يدفع إلى الشك في إمكانية القيام بتسجيل صادق للتاريخ في عصرنا الحالي على الاطلاق. دعوني أعرض دليلاً واحداً من بين مئات الأمثلة التي يمكن الاستشهاد بها. عندما انهارت المانيا، اتضح أن أعداداً كبيرة من الروس السوفييت ـ أغلبهم غيّروا مواقفهم، من دون شك، لدوافع غير سياسية ـ وصاروا يقاتلون إلى جانب المانيا. كما أن جزءًا صغيراً لكنه جدير بالاهتمام من الأسرى الروس والمشردين رفضوا العودة إلى الاتحاد السوفيتي، وأن بعضهم، على الأقل، أُعيد إلى بلاده خلافاً لرغبـــــته. لقد مرّت هذه الحقائق المعروفة للعديد من الصحفيين في الأماكن التي وقعت فيها من دون أن تشير إليها الصحافة البريطانية، في وقت واصل فيه المدافعون عن روسيا في انكلترا تبرير عمليات التطهير وعمليات الإبعاد التي وقعت بين الاعوام 1936ـ1938? زاعمين بأن الاتحاد السوفيتي "لا يعرف المراوغة". إن ضباب الأكاذيب والتضليل المحيط بمثل هذه المواضيع كالمجاعة في اوكرانيا، والحرب الأهلية في اسبانيا، وسياسة روسيا في بولندا، وما شابه ذلك، لا يرجع بشكل كامل إلى غياب أمانة الضمير، لكن أي كاتب أو صحفي متعاطف بشكل كامل مع الاتحاد السوفيتي ـ أي متعاطف بالطريقة التي يريدها له الروس أن يكون عليها ـ كان عليه أن يرضخ للتزوير المتعمد لمسائل هامة. أمامي ما ينبغي أن يكون كتيبًا نادراً جداً، كتبه ماكسيم ليتفينوف عام 1918 يلخص الأحداث الأخيرة في الثورة الروسية. لا يشير هذا الكتيب إلى ستالين، لكنه يكيل المديح إلى تروتسكي ، وإلى زينوفاييف ، وكامينيف، وآخرين . ماذا يمكن أن يكون رأي اولئك المثقفين الشيوعيين الأكثر تمحيصاً لهذا الكتيب؟ في أفضل الأحوال، سيقول الظلاميون إنها وثيقة غير مرغوب بها ومن المستحسن إخفاؤها. وإذا ما تقرر لسبب أو لآخر اصدار نسخة محرفة من الكتيب تحط من قدر تروتسكي، وتضيف إشارات إلى دور ستالين، فلن يكون بوسع أي شيوعي بقي مخلصاً لحزبه أن يحتج عليها. لقد اُرتكبت حالات تزوير بجسامة هذه الحالة تقريبا خلال السنوات الأخيرة، لكن الأمر المهم ليس أنها تحدث، بل حتى عندما ينتشر أمرها، فهي لا تُثير أي رد فعل في جناح مثقفي اليسار كله. إن الحجة التي تقول إن قول الحقيقة قد يكون "غير مناسب" أو أنه "سيصب في مصلحة" هذا الشخص أو ذاك، تبدو كأنها مقبولة، وصار قلة من الناس يكترثون لإمكانية ان تصل أكاذيب الصحف التي يتغاضون عنها إلى كتب التاريخ. | |
عدد المشـاهدات 491 تاريخ الإضافـة 15/06/2022 رقم المحتوى 64300 |