معضلة الديمقراطية .. عطل أم إحتضار ؟
مزهر الخفاجي
في بواكير الوعي الاولى عرفت الديمقراطية كونها حكم الشعب نفسه بنفسه فالدولة هي الاطار المؤسسي الذي ارتبط بتلك العلاقة التي نصت على التساوي الكامل بين ثلاثية تشكّل الدولة ( حق الفرد والجماعات ضمن الحيز الجغرافي للدولة).
وقد عملت الدولة البدئية منذ آلاف السنين على ان تكون هي الاطار المؤسسي السياسي، الاجتماعي، الاقتصادي. المؤسس لنظام السلطة الذي ينبثق منه الجماعة السياسية ، نظام السلطة، والمسؤول عن ادارة الاجماع السياسي، والذي تُعد المواطنة الركيزة الاساس لتماسك الفرد واستدامة علائق المجتمع الاجتماعية والاقتصادية فيه.
ان الايمان او القبول بمبدأ المواطنة للافراد والجماعات في مفهوم الدولة، يعني ضمان الحقوق والواجبات للفرد والجماعة داخل حدود الدولة.. وهو يضمن كذلك حق التعبير عن الرأي باعتباره اقراراً بحق المواطنة ، كما أكد هذا المفكر (جاكوبسن) وهو يتحدث عن الديمقراطية البدائية في بلاد الرافدين .
مشاركة فعالة
وستمكن بعد ذلك من مشاركة الافراد والجماعات من اجل اتخاذ القرارات الجماعية في النشاط الاقتصادي.. وقد تطور هذا المفهوم ونعني مفهوم المواطنة عبر التاريخ ليتصاعد فيها الى ترسيخ حق المواطنين في المشاركة الفعالة في اتخاذ القرارات الجماعية الملزمة وتولي المناصب العامة وخق اختيار من يمثلهم في سدة الحكم ضماناً لمطلبين شعبويين (العدل النسبي والأمن المجتمعي).
فضلا عن المساواة أمام القانون ولا بد ان نقف هنا امام أنواع معطلات النضج الديمقراطي في المجتمع التي حاول ان يقف عندها العالِم ( ماكس فيبر) التي ارجعت مقدمات العطالة في التجربة الديمقراطية الى تباين نتائج الصراعات في المجتمع فيعددها ويقول:
ان اول الصراعات التي تعد مقدمة لاستعادة الفرد لحريته:
أولاً: الصراعات بين الطبقة الحاكمة التي كانت قد جرت في مراحل تاريخية او العلاقة بين رأس المال والعمالة الأجيرة التي كانت علاقة ذات اهمية كبرى.
وربما يعد ماكس فيبر من المفكرين الاوائل الذين اكدوا من ان الحصول على الحرية ليس محتملاً الحصول عليها عن طريق ترجيح الثورة البروليتارية. وقد قدّم وجهة نظر اكثر تنوعاً عن الصراعات المتمادية في المجتمعات الرأسمالية او المجتمعات النامية.
وحذر فيبر من فكرة الصراع بين الطبقات المحرومة وسالبي حريتها، ما اثمر عن فكرة الصراع او اختزال تحليل الصراع المحتمل بين هذه الطبقات على فكرة السلطة وتوزيع السلطة والصراع عليها.
فقال بل ان الامر اكثر عمقاً وان الصراع اكثر اتساعاً، إذ ان الحصول على الحرية والديمقراطية كنتيجة لهذا الصراع إنما مستمد من التغيير الشامل للعلائق بين هذه الطبقات وكذلك تعبر عن كل مناحي الحياة وان الصراع بين الطبقات الحاكمة والطبقات المحرومة يعد مقدمة بعد انتصارها ونيل حريتها الى تأسيس حكماً قائماً على إرادة الأغلبية في إختيار من يمثلها في السلطات الثلاث.
منطق العقل
ثانياً: وأكد فيبر ان الحرية تستلزم تحرير عقول أي حضور الوعي ، والجاهزية في إستثمار الوعي والمعرفة في حدود الحرية ، وعدم التجاوز عليها وضرورة عقلنة مفاهيما.. وضرورة ان يتحرر الناس من اوهام الجهل ويحرر الناس من اعباء الاوهام اللاهوتية
والميتافيزيقية التي لا تستقيم مع منطق العقل والتطور الحاصل في العلوم وحاجات
الناس في ترسيخ مبادئ العدل والمساواة. وهذا هو الذي يستقيم مع منطق الحرية. مع عالم فتزايد الخضوع لهيمنة المنطق العلمي والتعددية والمنطق التكنلوجي الهائل. فيصبح العيش في عصور القهر والجوع والعوز المرتبطة بلاهوت اسطوري بمثابة تخدير مجتمعي متراكم يمنع المجتمعات من النهوض. ان الحرية وتجلياتها القائمة على (حرية الرأي ، حرية اختيار، المشاركة في صنع مستقبل المجتمع ) واتاحة اختيار السلطات الحاكمة واتاحة فرصة الاختيار والمشاركة للمواطن في اختيار من يحكمه انتصار ا لمنطق العقل والتغيير الذي يقاس في نوع وحجم التغيير الحاصل في المجتمعات وعلائقها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.التي تعد اسلوباً يعبر عن شكل من اشكال الحكم للنظم السائدة وتحديد اصلح النظم الديمقراطية التي ينبغي اعتمادها. ان عملية الصراع في اختيار الاصلح في نظم الحكم والجماعات الحاكمة.. هي التي ينبغي اعتمادها من مسؤولية كل فرد وكذلك الجماعة شرط الحضور الواعي للفرد والمجتمع ، وتراكم التجربة الديمقراطية.
ثالثاً: واكد الكثير من علماء السياسة من ان التحضر او الحداثة يعد البيئة الصحيحة لتأسيس مبادىء الحرية والديمقراطية التي ُيستلزم فيما حضور مفهوم العقلانية. وان حضور العقلنة هذه يجب ان تكون مصحوبة حتماً بانتشار حق التعبير بالاختيار.
وحق التعبير والتغيير يستدعيان توفر شروط الوعي التي عدت شرطاً من شروط شيوع الديمقراطية، والتي عدها كل من (المفكر كارل ماركس وانجلز) اللذان كانا يعدانها حقاً بدئياً..
وان مجرد حضور الديمقراطية تعني الوقوف بوجه استلاب حق المواطن وعاملاً مهماً لمنع تنامي بيروقراطية الدولة، وربما كان شيوعها. ونقصد البيروقراطية مقدمة لتميز الدولة وغلاضة سلطاتها واستبدادها فيما بعد.
مما تقدم يبدو ان مقدمات تطور مفاهيم الديمقراطية يشترط فرضية حضور مفهوم الصراع عند فيبر، وعند ماركس وهي قيام مستوى صراع الطبقات، وان نهاية هذا الصراع الذي سينتهي بانتصار طبقة الفقراء (انتصارهم في امتلاك حريتهم وحضورهم الواعي في المشاركة في اختيار الطبقة الحاكمة وشيوع منطق الحق والعدل والمساواة) ان حضور الوعي عند قيام الصراع سيؤدي لا محالة الى عقلنة مطلب الشعب بالشكل الذي يحسّن فيه اختيار نظام حكمه. او سلطاته الحاكمة. وان حضور الوعي الجمعي سيقف بالضد من ظهور بيروقراطية الدولة (او مركزيتها المقيتة) التي تعد مقدمة لظهور مفهوم لظهور الاستبداد.
ولم يكتفِ كارل ماركس بهذه الاشتراطات عند الذي طرحه فيبر فقد اشترط ماركس ان نجاح الديمقراطية إنما يستلزم مدنية مجتمعها، واشترط كذلك توفر حرية الاختيار للذين يمثلون هذه الطبقات.
بما يضمن حق المساواة بين جميع المشاركين.. وان الوصول الى الديمقراطية الحق يستلزم حضور مستوى من الوعي في ممارسة هذا الحق. ولا نأتي بجديد حين نقول ان انتعاش الحرية وتعاظم حظوظ الديمقراطية يشترط:
1- تمكين الجماهيراو الشعوب لتأسس الاحزاب السياسية حيث تنتظم فيها الجماعات والطبقات الشعبية في تنظيمات سياسة تُعرف ببرامجها وترسخ رغبتها في السباق الأنتخابي او اللعبة الديمقراطية .
2- ضرورة قيام القوى الوطنية ( احزاب، تيارات، جماعات) من التنافس على تمثيلهم في
الاجهزة التشريعية والحصول على النفوذ على الرغم من وجود انقسامات ما بين طامح
وطني وسياسي منتفع ووصولهم للتنافس من اجل الحصول على هذا النفوذ على ان يُنظم هذا التنافس وفق القانون الأنتخابي بما لايتقاطع مع الحريات والحقوق العامة التي كفلها الدستور وبالشكل الذي لايستغل حاجة الناس او مطالبهم كواحد من الأساليب ادامة زخم الديمقراطية .
3- وان التنافس اسلوب من اساليب اختيار الجماعة الحاكمةاذا ما أسيء فهمه (حضور المال السياسي ، التزوير ،الوعود الوهمية في البرامج الانتخابية ) اذا ما اضيف لها اصطفافً طائفياً مناطقياً عرقياً والذي يُعد تشويهاً لتنامي التجربة الديمقراطية وانحرافاً عن ألياتها المُعتمدة ، الأمر الذي يجعلنا ان نقول ان مثل هذه اللعبة ونقد اللعبة الديمقراطية وفي ظل الظروف الأنفك الذكر سيعمق الانقسام بين المجتمع وسيدفع بنماذج ورموز ستسيئ استخدام الصلاحيات التي منحتها لها الديمقراطية وسيتحول فيها المشاركين في هذه المنتظمات السياسية الى ادوات ظلم وابتزاز وتنافر مجتمعي لامحال .. ولا بد ان نذكر ان الجماعة الوطنية ( احزاب وتيارات) ان تقدم برامج ومشاريع للتطوير والنهوض
بمفهوم الدولة، وليس تقديم مشاريع قد تساهم في شق صف الشعب.. ويجب ان يصل
الى قناعة ان الديمقراطية كأسلوب لادارة نظام الدولة يجب ان تحضر فيه اكثرية
ديمقراطية فائزة.. وأقلية خاسرة.. تشكّل محور معارضة قادمة.
4- ويجب على المتنافسين والمشاركين في اللعبة الديمقراطية ان تظل آمينة للاصوات التي
منحتها ثقتها في التمثيل، ويجب كذلك العمل الجاد من أجل تحقيق وعودها التي تعاهدت
عليها في برنامجها الانتخابي، كي تحضى بتبعية جمهورها الداعم وإن لم تكن الجماعة السياسية المشاركة في اللعبة الديمقراطية مؤمنة بالحرية والديمقراطية كوسيلة من وسائل التغيير في المجتمعات في ترسيخ مبادئ الحكم الرشيد والدولة القائمة على ان الاغلبية تسود وتحكم وان الأقلية تعارض إن غياب هذه الاشتراطات سيحول الفاعلين في المنتظم السياسي قادة احزاب الى كهنة معابد ..وسيحول شعوبها او جماهيرها الديمقراطية الى زبائن موهومين بشعارات الأمل والحرية والعدل والمساواة الغائبة عن مفاصل الحياة والحاضرة في السردية السياسية للمسكين بالسلطة
5- ان من المبادىء الأساسية التي يجب ان تتحقق في البرلمانات الديمقراطية. تكمن في
حرص ممثلوا الشعب على أن لا يختطف من قبل الأحزاب و ان لايكون الأصطفاف وفق المعطيات التي ذكرناها على اساس طائفي او عرقي او مناطقي او طبقي او زبائني.. وان يؤمن النائب انه ملك شعبه.. وضرورة ان يضع مصالح الشعب فوق مصالح الحزب او قادته وان لا يقدم مصالحه الشخصية او الطائفية او العرقية او المناطقية على مصالح فقراء شعبه. لان الديمقراطية عندها ستتحول الى سبوبة للعيش. وجسراً يعيد عليك هذا
السياسي الى حيث مصالحه وسيتحول الفاعلين في المنتظم السياسي الى (بزنس سياسي) وليس عمل وطني يعي مسؤولية الحرية ويقدم مصالح شعبه ويقدر أهمية التنافس الديمقراطي الذي يقدم مصالح الوطن على مصالحه.
وان استهتار هذه الكتل بمصالح الشعب.. والتدوير في اسمائها ااو احتكار السلطة بيدها. سيحول الديمقراطية التي اشترطت حق المشاركة وحق التعبير وحق التداول السلمي لها الى دكتاتورية جديدة .
وهذا الامر سيساهم في تشويه مفهوم الديمقراطية واهتراء فكرة الحرية والعناية بها بوصفها بؤرة تأمل وحوار وتفكير في عملية تعبير الواقع المعاشي ويتحول البرلمان الى مصدر من يصادر العبث الديمقراطية
ويتحول العاملين فيه الى ممسكين بالسلطة. والداعمين لهذه الديمقراطية الى زبائن لأحزاب سياسية وليسوا مواطنين يطمحون الى بناء نظام حكم يتم فيه اختيار الافضل بغية النهوض بواقعهم الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي ، وهنا علينا ان نقف عند رأي (برهان غليون) الديمقراطية كتجربة تطوير نظام الحكم.. إذ يتفق فقهاء السياسة ان من العيوب البارزة انما تكمن في المظاهر التالية:
1- سيطرة الحزب الواحد. او الاحزاب السياسية وتدويرها في اكثر من حقبة زمنية. سيؤدي
بالتأكيد الى ضعف مبدأ التداول السلمي للسلطة وسيؤدي بعد ذلك الى احتضار التجربة
الديمقراطية وضعف ثقة الناس بها كنظام سياسي.. وتدني ثقة الناس في الفاعلين.
2- غياب مبدأ التنافس الحر والشريف: كان واحداً من ابرز مظاهر التعاطي مع التجربة
الديمقراطية في وطننا العربي منذ اكثر من مئة عام، إذ تخلف مساحة الحرية و
الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة بينما تخسر موقفها لصالح الاوليغاركيات
الاقتصادية والاجتماعية ( العوائلية) حتى رجال الاعمال وظلت هذه المجموعات بسبب
احتكارها للسلطة والموارد، فيما الدولة تعظم من مصادرها في زمن تخادمها مع بعضها
البعض و تخادمها مع الخارج الى اقصاء الجماعات الوطنية والقوى السياسية المحلية، بسبب عدم ايمان الممسكون بالسلطة من ( طبقة الاولغاركيات) عند ذاك تتكرس فكرة السيطرة على السلطة.
واستخدم قوة السلطة في اقصاء خصومها، فبدلاً من تطوير الوعي بمبدأ الديمقراطية احزابا وتيارات الى تعميق فكرة الرأي وحرية الاختيار والتنافس الشريف او التداول السلمي للسلطة.
فضلا عن الفصل بين السلطات، صارت هذه الاحزاب تحتكر السلطة والديمقراطية بحجة وصولها اليها عبر الديقراطية ، وتدجنها وتمارس شكلاً من اشكال السيطرة على ادارتها لتكرس حضورها الكريه.. وفق منطق استخدام المال والرشا والتزوير والتضليل والخداع بشعارات فضفاضة كوسيلة من وسائل كسب الرأي العام.
ان العطل الذي يصيب او أصاب التجربة الديمقراطية خلال عقودٍ مضت في المجتمعات العربية والاسلامية إنما يعود لعاملَين:
* الصدام والصراع الحاصل بين خيار الديمقراطية للشعوب التي تقودها تيارات وطنية مدنية و خيار الاحزاب القائدية (التي يعبر عنها بالأسلام السياسي ) والذي لايؤمن بالحرية ولابالديمقراطية لكنه يستخدم ادواتها للوصول الى السلطة ثم مايلبث ان يجيرها لصالحِ جماعاته والعامل الثاني ان وجود الاحزاب والتيارات الايديلوجية التي ستشتبك لامحال وع الديمقراطية والتي تعتمد على شراكة المجتمع وقواه الوطنية في تعميق تجربته الديمقراطية والتي تعتمد مفهموم الأغلبية والأقلية .. لكن الاحزاب الايدلوجية ستنتفخ بعد ذلك ببيروقراطية مقيتة يكرسها مفهوم الحزب الواحد والذي سيصطدم لامحال الديمقراطية بالبيروقراطية والاستبداد الحزبي فيما بعد ...
* ان الاسلام السايسي كما نعتقد يتعاطى مع الديمقراطية وفق منطق انه سببا مهما في وصولها الى السلطة، وما ان تصل حتى تبدأ القطيعة بينها وبين مبادىء الديمقراطية المتمثلة بحرية الرأي والاختيار الواعي.
وان المشاركة الحقيقية للمتنافسين والخصوم والحلفاء في القرارات التي تهم مصالح مجتمعاتنا بحجة ان الديمقراطية العلمانية والليبرالية والمدنية خطر يهدد منظومة الاسلام ويقف حائلا امام تطبيق الشرع.
وان فصل الدين عن السياسة مقدمة لمؤامرة غربية هدفها ابعاد الاسلام او مبادئه الصالحة لكل زمان ومكان عن الحياة. ولذلك ظهرت التجارب الديمقراطية ذات الصبغة الاسلاموية في مطلع الثمانينيات في مصر وبداية السبعينيات في المغرب العربي.
وبعد عام 2003 في العراق ناقصة ساهمت فيها هذه النخب في تعطيل حركة النهوض السياسي والاقتصادي والثقافي لهذه المجتمعات واحدث شكلاً من اشكال الصدام، أي صدام الاسلام السياسي مع الجماعة الوطنية والتيارات المدنية فيها.
او تحوّل الجماعات الاسلامية الى بيئات فكرية وثقافية مزعزعة لمفهوم الهوية الوطنية، وسائرة في طريق القطيعة مع مجتماعتها حد التكفير كما حدث عند الاخوان في مصر والتكفير كما هو واضح في حركة الانقاذ في الجزائر..
وكذلك فشلت الأحزاب الايدلوجية والقومية في تقديم نموذجها الديمقراطي إذ أنها وقعت في حبال سرديتها النظرية والتي لم توفق في التعاطي مع الشعارات التي رفعتها وقد كانت مباحثات الوحدة العربية زمن زعامة الرئيس (جمال عبد الناصر ) والتي استمرت لأكثر من ثلاث سنوات عاجزة عن احتواء جماعتها الوطنية وفشلت في تطبيق شعار (الوحدة في أطار التنوع الفكري والأثني ) وهي كذلك لم تُغادر مفهوم ولم تغادر شخصنة الزعامات الوطنية ..وأقصت الكثير من القوى الوطنية عن المساهمة في تدعيم تجربتها الديمقراطية والأنكى من ذلك الاحزاب الايدلوجية لم تنجح في إنضاج تجربتها ففشلت في مشروعها الوحدوي وعجزت عن تقديم نموذجها الاقتصادي وعجزت من ان تحمي استقلال بلدانها وحرية مجتمعاتها وقدمت الكثير من الخسائر في حروبها عام (١٩٤٨، ١٩٦٨، ١٩٧٣).
ولكي لانظلم احدا ينبغي القول منذ البداية إن المجتمعات العربية هي بشكل عام مجتمعات شابة قليلة التجربة بالممارسة الديمقراطية السياسية الحديثة حتى بالنسبة لدول النامية ، التي لازال يعيش قسم كبير منها.
تعتمد في إعادة إنتاج لحمتها وتظامنها الداخلي إلى حد كبير على مؤسسات وهياكل وقيم قديمة ترجع إلى ما قبل السياسة الحديثة من أسرة وعائلة وعشيرة وطائفة ومنطقة وطبقة.. إلخ.
أما الخبرة السياسية الحديثة - أعني العمل في إطار تضامن مواطني يجمع الأفراد من وراء انتماءاتهم وارتباطاتهم الأهلية الخاصة - فلا تزال ضعيفة جداً. كما أن الخبرة التي تراكمت خلال الحقبة الأولى من ممارسة الحياة السياسية الحديثة في منتصف القرن العشرين لم ولن تنتقل بسهولة.
وأحياناً لم تنتقل بتاتاً إلى الأجيال الجديدة وتعرضت إلى انقطاعات كبيرة فيها. فعدم الاستقرار عموماً للنظم السياسية وتكرر الانقلابات العسكرية وغير العسكرية وغياب التفاعل بين النخب السياسية الفلاحية .
والعسكرية والمدنية المتنازعة والطامحة إلى السلطة وتصفية بعضها لإرث البعض الآخر، كل ذلك ساهم ولا يزال يساهم في هذا انقطاع ونضج التجربة الديمقراطية و في انتقال الخبرة وبالتالي في تراكم تجربة ديقراطية سياسية حية بما تشتمل عليه من ممارسات نموذجية وتقاليد وتقنيات وقيادات وأصول معروفة ومتبعة.
تقف الخبرة الديمقراطية العربية عند مستوى متدن لا يرتقي أكثره إلى مستوى دول أميركا اللاتينية ويبدو أن خيارات اللجوء للديمقراطية في مجتمعاتنا العربية، اما مدفوعا لها للحد من تنامي المعارضة السياسية الداخلية كما حدث في مصر زمن السادات أو مفروضة علیه کما حدث في العراق بعد عملية التغيير عام 2003.
وعلينا ان نقف الأن لنحدد أبرز معطلات التجربة الديمقراطية في مجتمعاتنا العربية (العراق نموذجاً) :
اولاً: الديمقراطية والمعطل الاجتماعي ( القبلي)
علينا ان نعترف هنا.. ان سلوك الفرد السياسي في العراق لا يأتي بمعزل عن تأثير الجماعة الشعبية التي يعيش فيها، فهو أما يستند الى العقل الجمعي، الذي يستند الى مواقع القيم الثقافية التي ينشأ فيها.
ويتشكل فيها العقل الجمعي، والعنصر الآخر المؤسس للسلوك الفردي إنما نقصد فيه التنشئة للفرد التي تعد المؤسسة للشخصية الديمقراطية او الدكتاتورية. هذا الامر هو الذي جعل الدكتور صادق الاسود يؤكد من ان الديمقراطية:
- ( مجموعة قيم اجتماعية وسلوكية تؤدي الى مساهمة عامة في العملية السياسية ذلك
يعني على وجه التأكيد. وبهذا المعنى تتحول الديمقراطية من اسلوب للاختيار الى اسلوب
او طريق في رسم الحياة واسلوب لدفع غير الفاعل والوصولي والانتهازي للمشهد السياسي وان الديمقراطية الحقيقية تعزز ديمقراطية المجتمعات الممارسة
لها ويتأكد نجاحها من جاهزية الشعب لممارسة هذا الحق وان عدم جاهزيتها سيكرس ثقافة القطيع ).
ولا نأتي بجديد حين نقول ان القبيلة او العشيرة، وان تخادم العشيرة ورجالاتها مع نخب سياسية ونقصد بتلك النخب المحلية التي تتخادم معها من الممسكين بالسلطة ورأس المال السياسي او تجاورها مع مصالح المستعمرين والمحتلين..
هذا يجعل من العشيرة صاحبة فضل في مجتمعاتها وصاحبة دالة عليهم وستتحول العشيرة لامحال الى زبائن او دكاكين او مولات يشتري منها هذا الحزب او ذاك موارده .. هذا اذا ماعرفنا من ان سماع صوت العشيرة والانصياع لها . واجبة الطاعة في المجتمعات العربية، ووفق هذا المنطق فأننا نجدُ ان مبررات هذا الانحياز او الطاعة العمياء للعشيرة كان سببه عجز الدولة ومؤسساتها من تقديم الحماية الكاملة لهذه المجتمعات (القبيلة ، العشيرة) .
وإليك الأسباب:
1- الدولة لا تستطيع أن تحل محل القبيلة في توفير الحماية له عند الاعتداء او التجاوز على
ارضه او املاكه.
2- القبيلة صارت تعرقل بناء الفرد والدولة ومؤسساتها.. وصارت مكاناً قد تساهم في تفجير
الصراعات أو في الدفع باتجاه تعطيل تقديم الخدمة او الضغط على مشاريع الاستثمار بها
إلا عند الاستفادة منها. لاحظ تعاطي العشائر مع الشركات النفطية والمشاريع الاستثمارية
في البلاد العربية، حيث لا تقدم الدولة حماية لهذه الشركة او للمستثمر صارت القبيلة تضع العراقيل امامها لتصل الى حد الابتزاز.
3- ان حضور القبيلة السلبي او حضورها غير الفاعل قد يؤدي الى دعم الفساد من خلال دعمها لعدد من ابنائها للتصدي لهذه الوظيفة او تلك حتى اصبحت العشيرة حاضرة في النزاعات السياسية والقضائية بدل ان تحضر مفاهيم وقيم الدولة والقانون والدستور فيها. صارت القبيلة معرقلة للعمل الديمقراطي حتى باتت تدفع بالفاسد للبرلمان او للوزارة او لهذه المؤسسة او تلك وتدافع عنه ارضاءا. من نافلة القول ان الولاء القبلي والعشائري صار معطلاً لفكرة السلم الاهلي.. وصار مساهما في ترسيخ الجهل عندما رفعت العشيرة شعار ( انصر اخاك ظالما او مظلوما) فصارت رافعة للجهل وحامية للفساد والفاسدين ومعطلة لحركة النهوض الاجتماعي وقامت الاحزاب بشكل خبيث بتوظيف العشيرة. هذه الرابطة الاجتماعية التي حافظت على النسيج المجتمعي لاهدافها بدلا من تقديم الخبرات والسعي من اجل رفع شأنها وقد حولها الى زبون سياسي حاضر عند الانتخابات الديمقراطية فشوهت دورها الوطني الاخلاقي الفاعل عبر التاريخ.
ثانياً: المعطل السياسي في الجماعات الوطنية
شهد العراق في تاريخه المعاصر نوعين من النخب السياسية .. نخب فرضتها ودفعت بها الظروف المجتمعية القبلية والعوائلية، وهذه النخب كانت لا تمثل بحق طبقة واعية ومندكة من المجتمع ولم تحمل هماً وطنياً ولا تلبي تطلعاته في الحرية والديمقراطية.
والنوع الآخر من النخب السياسية تلك النخب التي ساهم في تصديرها وتسويقها ( الخارج) احتلال كما حصل مع بريطانيا في الدفع او للتفاهم مع الرموز المجتمعية البورجوازية أو التعاطي مع البيئة العشائرية او مع منظومة الجماعة الدينية او ملاكي الاراضي (الاقطاعيين) .
وان تغير هذا الوضع بعد ثورة 14 تموز من العام 1958 لتحل الجماعة السياسية المؤدلجة بين يسار عربي وتيار قومي عربي والذي كما اسلفنا سابقاً لم يفلح لا في التعاطي مع الديمقراطية كأسلوب للحياة ولا انضاج مفهوم التبادل السلمي للسلطة ولا انتاج نظام حكم يؤمن بالتعددية والحرية السياسية اما يميز البيئة السياسية بعد عملية التغيير عام 2003.
فقد وجدنا من كون اغلب القوى السياسية الفاعلة في العراق تعمل من منطلقات دينية ، انطلقت في التعاطي او الاندكاك مع الديمقراطية انما تعود في افكارها لمرجعيات دينية / سياسية / هرمية /اسلامية . ولقد وجدناها في ترابيتها الحزبية لا تمتلك نظاماً حزبيا وتنظيما واضحاً أو هيئات حزبية تعقد مؤتمراتها السنوية.
لتقديم مشاريعها الوطنية والسياسية والبرامج للنهوض في العراق باعتبارها احزاب معارضة وهي لم تتبلور لتشكل معارضة حقيقية لديها أسس ومفاهيم واضحة عن الدولة وعن الحرية وعن الديمقراطية كأسلوب واداة للوصول الى الحكم وقد عاشت ودفعت بعد التغيير برموزها السياسية المعارضة بلا تأهيل للتعاطي مع الديمقراطية ولا تطوير لتجربتها التنظيمية والفكرية والعقائدية تؤمن بالتداول السلمي للسلطة. في ما ان تمكنت هذه الاحزاب والجماعات المعارضة برفقة الجماعة الاثنية والطائفية من السلطة.
لم يكسب العراقيون من رجال السلطة فيها غير اجترار مقولات الديمقراطية وحقوق الانسان دون اي تطبيق يذكر على ارض الواقع وكرست مفهوم المظلومية ووصل الأمر في البعض الى خد الثأر من المنصب ، بل على العكس حيث انهار مفهوم الديمقراطية وكُبلت الحريات مع تنامي الجماهير الرافضة لهذا النمط من انماط الحكم .
، ويجب ان نذكر معطلات االسياسية للجماعات الوطنية / الحزبية للديمقراطية في العراق:
- مع اول دستور وتشكيل اول مجلس حكم وبعد نتائج الانتخابات عام ٢٠٠٥ ظهرت حكومة الظاهر منها ديمقراطي والغاطس منها طائفي عرقي محاصصي بأمتياز ويبدوا ان هذه الحكومة ومؤسساتها التنفيذية والتشريعية ترجمت توجهات هذه النخب السياسية، وخير دليل في هذا تشكيلتها
الوزارية / الحكومية وقعت فيها الديمقراطية في مخالب محاصصة طائفية وسياسية فبدلا
من ان تحترم هذه الاحزاب والتيارات والتحالفات مبدأ الاغلبية والاقلية في تنافسها
السياسي صارت تسعى للحصول على احتكار لتمثيل الطائفة او المكون او القومية او
الاقلية.
فضاعت الديمقراطية بين طموحات هؤلاء المتخاصمين.. وبدت الديمقراطية في العراق تحتضر وبدلاً من ان تكون الحرية والديمقراطية اسلوباً لمرحلة تاريخية وسياسية تعجل من حركة النهوض المجتمعي والحضاري للدولة.
صارت عاملاً في تقسيم المجتمع وعاملاً من عوامل تعطيل هويته الوطنية الجامعة.. وسبباً في تشويه مبدأ الديمقراطية السامي ، ونفور الجماهير منها .
ثالثاً: الديمقراطية الممسوكة من الخارج
- مرضٌ عضال الديمقراطية ألفتية
تاريخيا ان من سوء طالع العراق كشعب انه في التغييرين اللذان حاولا التماس الديمقراطية فيها لبناء نظام الحكم فيها كان للقوى الخارجية دورا فيها ، ففي التغيير الاول عام 1921 ساهمت بريطانيا في تتويج فيصل.
وفي رسم شكل الجماعة الجماعة السياسية وفي تدجين الديمقراطية فيها وقد تشكلت الدولة فيه من فواعل بريطانيا في العراق وتقصد الاوليغاركيات الثلاث ( القبيلة، رجال الدين، وملاكي الاراضي). والغريب ان التجربة الديمقراطية التي نعيشها منذ العام 2003 كان موديلا امريكيا بامتياز.
فبدأ من الدستور الذي يكرس مفهوم المكونات على حساب المواطنة وانتهاءا بالمشهد السياسي السائد الان ورغم محاولة القوى الخارجية من ايجاد معادلة ديمقراطية من قوى معارضة للنظام السابق كانت بالخارج ومعها قوى من الداخل. لكن هذه الخلطة (خلطة العطار) السياسية الطائفية الاثنية الحزبية لم تنتج الا عراق محاصصي.
ودولة ريعية ومؤسسات حزبية محاصصية لم تستطع ان تقوم بدورها الوطني، وذهبت الى نظام حكام يخدم زعامة الحزب زعامة الطائفة زعامة القبيلة فساهمت هذه البيئة في طرح نماذج فاشلة للديمقراطية.
كمبادىء وسلوك وسوقت رموز لا تملك ايمانا بالديمقراطية ولا حتى بالوطنية وافرزت فسادا محميا محاصصيا وحزبيا وطائفيا لتؤسس دولة عميقة ينهش في عظامها الفساد والسياسي والاقتصادي والعشوائية في الأدارة.
رابعاً: الدولة الديمقراطية واشكال الفشل
يذكر الكثير من المراقبين السياسيين المهتمين بالشأن العراقي من ان الانتقال العراقي الى الديمقراطية وكما ذكرنا نتائجه سابقا، وكذلك من التجارب الديمقراطية في البلدان العربية خصوصاً بشكلها الواضح.
انما كان انتقالا أداتيا (شكلياً) مفروضا او مجبرة عليه البيئة السياسية والمجتمع في العراق اي مفروضاً خارجيا اكثر منه تحولا وطنياً محلياً واعيا مستند الى حاجة وطنية ونضجا سياسيا لحركة النضال المجتمعي الراغب في تحقيق امانيه في الحرية.
والغريب انه لم يستند الى ثقافة مجتمع مدنية فيه التي كانت لوتوفرت ستكون داعمة النهوض المجتمعي و