ذاكرة الظلال.. ديمقراطية الرافدين (7)
بازار الحكومة في اليوم التالي للإنتخابات
كاظم نزار الركابي
إذا كانت الانتخابات هي “حفلة” الديمقراطية الصاخبة، فإن تشكيل الحكومة هو “ثمالة” ما بعد الحفلة، إذ يسيطر الصداع والحسابات الباردة على رؤوس المشاركين.
في صباح “اليوم التالي” للانتخابات، انتهت صلاحية “الصناديق”. الأرقام التي أُعلنت لم تعد “نتائج”، إنما تحولت إلى “عملة” في “بازار” التفاوض الحكومي.
في هذا البازار، لا “دستور” يحكم اللعبة، وإنما “موازين قوى”. والسؤال الذي يطرحه الجميع ليس عن “من فاز؟”، بل عن “من يملك مفاتيح الدولة العميقة؟”. وضعنا في حلقاتنا السابقة “الإطار النظري” لما جرى. واليوم، يتحرك هذا الإطار على الأرض وفق ثلاثة سيناريوهات تتصارع داخل الأروقة الخلفية للمنطقة الخضراء.
السيناريو الأول: “التمكين الخدمي”.. (الحلم الذي تبخر)
هذا السيناريو راهن عليه السوداني وكتلته (ائتلاف الإعمار والتنـــــــــــمية) قبل الانتخابات. كانت الخطة تقتضي اكتساح الصناديق بالحصول على 100 مقعد، تُجبر (الكارتل) على قبول حكومة خدمية يقودها السوداني بصلاحيات واسعة.
هذا السيناريو يُعد “انقلاباً ناعماً” من داخل النظام على النظام ذاته، لأنه كان يعني تحويل “الخدمة” إلى “سلطة”. غير أن هذا الحلم اصطدم بصخرة الواقع، كما كشفنا في الحلقة الرابعة؛ فـ “الرياضيات” لا تكفي (54 مقعداً) لفرض هذا “الانقلاب”. ولهذا، مات هذا السيناريو في مهده.
اطار تقليدية
السيناريو الثاني: رغبة الكارتل بـ“الاحتواء الكامل”
على الجانب الآخر، امتلك “صقور” الكارتل (بعض قوى الإطار التقليدية) على مدى الشهور الأخيرة، رغبة دفينة في “تحجيم” السوداني، تحت منطق يفيد بأن: “سمحنا له باللعب، فصدّق نفسه. والآن، ينبغي أن يعود إلى حجمه الطبيعي”.
صقور الكارتل يريدون تشكيل حكومة “محاصصة”، يُجرّد فيها السوداني من أية “أدوات قوة” حقيقية، مع إبقائه في الواجهة لأنهم يحتاجون شرعيته الخدمية، بينما يزرعون “وزراء ظل” يديرون الوزارات فعلياً. إنها حكومة “المدير”؛ “الكارتل” يكتب القرارات، والسوداني يوقعها. هذا السيناريو أيضاً “خطر”. لأن “تحجيم” السوداني قد يدفعه لـ “قلب الطاولة” وكشف المستور، الأمر الذي يعني “انهيار” الشرعية الخدمية التي يحتاجها الكارتل لتهدئة الشارع. كما أن “طهران” و”واشنطن” (كما شرحنا في الحلقة الخامسة) لا يريدون “هزة” عنيفة، وإنما يريدون “استقراراً”.
السيناريو الثالث: “التسوية المكلفة” (الواقع)
هنا نصل إلى السيناريو “الأرجح”، وهو السيناريو الذي يُكتب الآن بروية وهدوء على أوراق صفراء. إنه سيناريو “لا غالب ولا مغلوب، ولكن الكل خاسر”.
ثمة حقيقة مرة يدركها الطرفان (السوداني والكارتل): “لا أحد يمكنه إلغاء الآخر”. ما الحل إذن؟ الجواب ببساطة هو “صفقة” جديدة لتأمين “حكومة برأسين”:
1.رأس “الــــــــضوء”: السوداني يحتفظ بـ “الوزارات الخدمية” (الإعمار، الكهرباء، الصحة، النقل). هذه وزارات “مرئية”، تسمح له بمواصلة “قص شريط” المشاريع، والحفاظ على شعبيته، وتغذية “سردية الإعمار”.
2. رأس “الظل”: الكارتل يحتفظ بـ “الوزارات العميقة” (المالية، النفط، الداخلية، الأمن الوطني). هذه هي “عصب” الدولة ومصدر “المال” و”القوة”. هنا يتم ضمان “العقود”، و”التعيينات”، و”الحصانة”.
حكومة مستقرة
أذن، حكومة تجسد بنحوٍ مثالي “ديمقراطية الظلال”. حكومة تبني “جسوراً” في النهار، وتعقد “صفقات” في الليل. حكومة “مستقرة” ظاهرياً، لكنها تعيش “حرباً باردة” في كل اجتماع لمجلس الوزراء. هذا ما نسميه “الاستقرار الهش”. لأنه قائم على “ديمومة الضعف”، لأن الجميع خائف من الجميع، والجميع بحاجة للجميع.
إن “بازار الحكومة” المقبل لن يصنع “حلولاً” لأزمات العراق البنيوية، ولن ينتج “إصلاحاً” للاقتصاد الريعي (لأن الكارتل يحتاج الريع). ولن ينتج “دولة قانون” حقيقية (لأن القانون يهدد الكارتل). ما سينتجه هذا البازار هو “عقد إدارة أزمة” جديد، مدته أربع سنوات (أو أقل). مهمة هذه الحكومة “الوحيدة” ستكون: شراء الوقت بـ“الإسفلت” (للجمهور)، وبـ“المناصب” (للشركاء)، وبـ“النفط” (للخارج).
في خضم هذا “البازار”، يظل “المواطن” (الذي عزف عن التصويت) واقفاً خارج السور، يراقب “الظل” وهو يبتلع “الدولة” مرة أخرى، بانتظار اللحظة التي ينفد فيها “المال” أو “الصبر”. وبقي أن نحتمل أن الضرورة قد تدفع الكارتل إلى سيناريو رابع، يتلخص بالتضحية بالقطبين (المالكي والسوداني) معاً، والذهاب إلى “مرشح تسوية” في حال وصول الصدام الناعم بين الاثنين إلى حافة الهاوية. فالشارع يتداول الآن تسريبات تتعلق بهذا السيناريو، وتتضمن هذه التسريبات أسماء لشخصيات أمنية ووزراء سابقين قد يجري اختيار أحدها لحسم المخاوف.