الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
بلاغة الدفء : الشعر بوصفه  موقفاً أخلاقياً في قصيدة ارتباك الندى لبشائر الشرّاد


بلاغة الدفء : الشعر بوصفه  موقفاً أخلاقياً في قصيدة ارتباك الندى لبشائر الشرّاد

الناقد  د.عبدالكريم الحلو - العراق

------------------------------

 

قصيدة  : ارتباك الندى

 الشاعرة  بشائر الشرّاد

-------------------

 

يراودني شعورٌ غريب،

أن الوردة في يد المهرّج

كانت دافئة،

مثل كمانٍ يحتضن أوتاره

على نوافذ المطر

 

وأنا امرأةٌ لا ترحّب بالأشياء

إلا إذا جاءت دافئة...

دافئة...

 

كوجهك الملوّن بالضحكات

الذي ظلّ يتقافز في رأسي

مثل فراشاتٍ

تهبط على حدائق البرتقال

وتلعب الغميضة مع الصغار

تختبئ خلف العشب والشجر

وخلف قلبي أيضاً...

 

مهرّجٌ أنت،

وأنا وردة ...

وردةٌ لامست كفّك

وانفكّ عنها طلسمها

و... ر... د... ة

في قصيدةٍ

ضاعت في مجاز شاعر

تستفزّه الفصول

وتعذّب ارتباكاته الحزينة

 

وكلّما لامست كفّك

انساب صوتٌ

غنّى للحب

غنّى لشتاءٍ طويل

يبلّله الندى

 

ولأنني أخاف

أن تسقط منّي

بتلةٌ واحدة

أو أيّ شيءٍ يُذكّر...

كنتَ ترتّب أمنياتك البسيطة في صدرك

كما يرتّب عاشق أزرار قميصه

على موعد مع الحبيبة،

وكلّما لاح الصيف في حنجرتك

غنّيت،

 العطر الذي يخرج من وردة حيّة

أصدق

من الذي يخرج من فوهة قارورةٍ زجاجيةٍ ثمينة

 

يا للمجاز...

ويا لرقة ذلك الشعور

الذي راودني يوماً

أن العالم لو رآنا معاً

سيتعلّم

كيف يكون لطيفاً

وليتعلّم

كيف يكون دافئاً كالكمان

حين يستقر

بين يدي مهرّج

وجد وردته أخيراً...

 

     ^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^

 

* عتبة الدفء : العنوان بوصفه إعلانًا أخلاقيًا - قراءة نقدي  حديثة في  توجيه أفق التلقّي :

 

نحن أمام شاعرة  لا تسأل عن الحب، بل تختبر حرارته : هل هو حيّ أم مصنَّع؟

هل يخرج من وردةٍ ما زالت تنبض ؟

أم من قارورةٍ أنيقة بلا قلب؟

 

في هذا العالم، يصبح المهرّج أكثر الكائنات جدّية، لأن الضحكة التي يعرفها ليست قناعًا بل وسيلة نجاة، وتغدو الوردة ذاتًا خائفة من اكتمالها، تحرس بتلاتها كما تحرس امرأة ذاكرتها.

 

كل شيء هنا يرتبك : الندى، المجاز، الصوت، وحتى اللغة نفسها، لأنها تدرك أن أيّ اقتراب زائد قد يتحوّل إلى فقد.

 

هذه ليست حكاية لقاء، بل تمرين على اللطف في زمنٍ خشن.

تمرين على أن يكون العالم  ولو لوهلة   دافئًا ككمانٍ يستقر بين يدي مهرّجٍ وجد وردته أخيرًا.

 

ليس الدفء في العلاقات الإنسانيّة حرارة الجسد، ولا كثافة الكلمات، ولا كثرة الحضور.

الدفء الأخلاقي هو ذلك الشعور الخفيّ الذي لا يُرى، لكنه يُحَسّ فور غيابه: أن يقترب الآخر دون أن يجرح، وأن يمسكك دون أن يمتلكك، وأن يضحك معك لا عليك.

 

في زمنٍ صارت فيه المشاعر سريعة الاستهلاك، ومعلّبة كالعطور الفاخرة، يصبح الدفء الأخلاقي فعل مقاومة.

 

هو أن تمنح الأمان قبل الرغبة،  والاحترام قبل الإعجاب،  والطمأنينة قبل الوعد.

أن تكون العلاقة مساحة نجاة لا ساحة اختبار،  وأن يظل القلب وردةً حيّة لا عيّنة محفوظة في زجاج.

 

هنا، لا يُقاس الحب بما يُقال، بل بما لا يُؤذِي.

ولا يُختبر القرب بمدى الالتصاق، بل بقدرة الطرفين على البقاء إنسانيين، لطفاء، وأحرارًا.

ذلك هو الدفء الذي يجعل العلاقات ممكنة… وقابلة للبقاء.

 

المعادل الموضوعي للحنان :

من تي أس إليوت إلى النص

تحليل الرموز (الوردة، المهرّج، الكمان، الندى) بوصفها حوامل شعوريّة :

---------------------------

يقدّم نص «ارتباك الندى» لبشائر الشرّاد اشتغالًا شعريًا ينهض على تحويل الهشاشة إلى بنية دلاليّة واعية، حيث لا تُكتب القصيدة بوصفها تدفّقًا عاطفيًا فحسب، بل بوصفها نظامًا رمزيًا يُعيد ترتيب العلاقة بين الذات، والآخر، والعالم.

 

من منظور  ( تي. إس. إليوت، ) ولا سيّما مفهومه عن المعادل الموضوعي (Objective Correlative)، يمكن القول إن الشاعرة لا تصرّح بالحالة الشعوريّة،

بل تُنشئ لها مقابلات حسّيّة دقيقة: الوردة – المهرّج – الكمان – الندى

 

هذه العناصر ليست زخرفًا استعاريًا، بل منظومة إشارات تتآزر لتوليد الشعور بالدفء والارتباك والحنوّ والخوف من الفقد.

 

فـ«الوردة في يد المهرّج» تؤدّي وظيفة المعادل الموضوعي للحظة التقاء البراءة بالهشاشة، والضحك بالحزن، وهو ما يجعل العاطفة قابلة للإدراك لا للشرح.

 

* الندى كحالة بينيّة :  البنيويّة والثنائيات المتذبذبة

تحليل الثنائيات (الدافئ - البارد، الحي -  المصنّع ، أما من زاوية النقد البنيوي، فالنص يقوم على ثنائيات ضديّة تُدار بذكاء دون الوقوع في تقابلٍ حادّ:

 

الدافئ - البارد،

الحيّ - المصنَّع،

الضحكة - الارتباك،

الطفولة - الوعي.

 

لكن اللافت أن الشاعرة لا تحسم الصراع لصالح أحد الطرفين، بل تتركهما في حالة تذبذب دائم، وهو ما يفسّر عنوان النص : ارتباك الندى، فالندى ذاته حالة بينية، لا مطر كامل ولا جفاف، وهو ما ينسحب على الذات الأنثوية في النص.

 

* حين يرتبك المجاز : وعي النصّ بمخاطر لغته ،  مقاربة تفكيكيّة (دريدا) لوعي النصّ بذاتيته  :

في ضوء القراءة التفكيكيّة (دريدا)، يمكن ملاحظة أن الشاعرة تُقوّض مركزية المجاز نفسه.

فهي تقول صراحة:

« وردةٌ… ضاعت في مجاز شاعر »

 

    - هنا يحدث وعي ميتاشعري نادر؛ إذ تعترف القصيدة بأنها مهدّدة بالضياع داخل اللغة،

    - وأن المجاز – أداة الشعر الكبرى  قد يتحوّل إلى فخ.

    - هذا الوعي يفتح النص على مساءلة اللغة لا الثقة المطلقة بها، وهو منحى حداثي واضح.

 

* الشعر ضدّ البرودة : جماليات الحساسية الجديدة ، كيف يتحوّل اللطف إلى موقف جمالي مقاوم :

أما من منظور النقد النسوي المعاصر، فالأنثى في النص ليست موضوعًا للغزل، بل ذاتًا حسّاسة تضع شروطها:

 

«وأنا امرأة لا ترحّب بالأشياء

 إلا إذا جاءت دافئة»

 

    - الدفء هنا ليس جسديًا،

    - بل أخلاقيًا ووجوديًا.

    - إنها أنوثة واعية بالهشاشة،

    - لكنها لا تستسلم لها،

    - بل تحرسها خوفًا من «سقوط بتلة»، أي من الفقد الرمزي للذات.

 

* الإيقاع الداخلي ووحدة الحساسيّة من إليوت إلى الشعر الحرّ: الموسيقى بوصفها إحساسًا :

وفي البنية الإيقاعية، نلاحظ – وفق مقاربات الشعر ما بعد الإليوتي  أن الإيقاع داخلي، نابع من التكرار («دافئة… دافئة»)، ومن التوازي التركيبي، لا من الوزن التقليدي.

 

هذا ينسجم مع مفهوم إليوت عن وحدة الحساسية، حيث تتداخل الفكرة والإحساس في نسيج لغوي واحد.

 

أخيرًا، ينجح النص في ما يمكن تسميته أنسنة الهامشي:

المهرّج، الضحكة، اللعبة، الغميضة، كلها عناصر طفولية، لكن الشاعرة تعيد شحنها بدلالة وجودية عميقة، ليغدو المهرّج كائنًا خلاصياً، لا رمزًا للسخرية، وتغدو الوردة ذاتًا شاعرة لا زينة.

 

خلاصة القول:

« ارتباك الندى » نصّ حداثي رقيق، يشتغل على الحافة بين الشعور والتفكير، بين المجاز وفضحه، ويقدّم تجربة أنثوية واعية بلغتها ومخاطرها.

 

إنه نص لا يكتفي بأن يكون جميلًا، بل يفكّر في جماله، وذلك ما يمنحه قيمته الجمالية والمعرفية معًا.

لذلك سنحبّ كما لو أنّ العالم يتعلّم الحبّ للمرّة الأولى، بلا أقنعة، بلا حسابات، وبلا خوفٍ من البلل.

 

سنترك قلوبنا تمشي حافيةً في المطر، ونوقّع وعودنا بالماء لا بالحبر،

 

ها أنا أغادر النص كمن يغادر مدينةً أحبّها، لا أجرّ حقيبةً، ولا أنسى الزوايا التي أحتضنتني ، أغادر وكأنّي أحمل رائحة المطر بين أصابعي، النص انتهى، لكن أثره باقٍ: في دفء الذكرى، في نغمة الصمت، في وعدٍ لم يُكتب بعد.

 

وأغادر، ليس فرارًا، بل على أمل العودة،

وأترك الوردة والمهرّج والمطر خلفي،

أغادر النص كما يغادر المرء غرفة مشبعة بالذكريات، لا أنسى أثر الدفء، ولا أصحو من وهجه، ولا أنسى أنّ كل خطوة خارج النص هي امتداد لما لم يُقال، لكل لحظةٍ بقيت معلقة بين الحروف، تنتظر من يلمسها.

 

فالنص ليس مكانًا للبقاء، بل محطة للارتجاف، للحب، للوعود، وللاختبار،

وأنا أغادره، أحمل معي دفئه،

وأعدّ نفسي أن أعود كلّما اشتدت الحاجة إلى الضوء والندى.

 

كاتب وناقد أدبي عراقي

 

بشائر الشراد


مشاهدات 109
الكاتب عبد الكريم الحلو
أضيف 2025/12/28 - 2:37 PM
آخر تحديث 2025/12/29 - 3:54 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 554 الشهر 21852 الكلي 13005757
الوقت الآن
الإثنين 2025/12/29 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير