الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الأتمتة الحكومية.. أداء أسرع إنتاجاً وحوكمة أكثر كفاءة

بواسطة azzaman

الأتمتة الحكومية.. أداء أسرع إنتاجاً وحوكمة أكثر كفاءة

عدنان الدوسري

 

في عالمٍ يتسارع فيه التحول الرقمي بوتيرة غير مسبوقة، لم تعد الأتمتة في العمل الحكومي خيارًا إضافيًا أو مشروعًا تجميليًا، بل أصبحت ضرورة استراتيجية تمسّ جوهر الأداء العام، وترتبط مباشرة بجودة الخدمات، وكفاءة الإنفاق، وثقة المواطن. فالدولة التي تؤجل الأتمتة تؤجل معها قدرتها على الإنجاز، وتراكم لديها التعقيد الإداري، والهدر، وبطء القرار. الأتمتة اليوم تمثل الجسر الحقيقي بين الرؤية الحكومية والتنفيذ الفعلي على الأرض. تعني الأتمتة في جوهرها تحويل الإجراءات الورقية والعمليات اليدوية إلى أنظمة تشغيل رقمية ذكية، تعتمد على قواعد البيانات، وتكامل الأنظمة، والتحليل اللحظي للمعلومات.

تحول رقمي

هذا التحول لا ينعكس فقط على سرعة إنجاز المعاملات، بل يعيد بناء شكل الإدارة العامة، من طريقة استقبال المواطن، إلى أسلوب اتخاذ القرار، وحتى آليات الرقابة والمتابعة.

تشير بيانات من تقارير دولية متخصصة في التحول الرقمي الحكومي إلى أن ما يقارب 60 إلى 70 في المئة من زمن المعاملات الإدارية يمكن اختصاره عبر الأتمتة الكاملة، وأن متوسط زمن الخدمة في بعض الدول التي تبنّت الخدمات الرقمية انخفض بما يقارب 20 إلى 40 في المئة خلال السنوات الخمس الأخيرة. هذه الأرقام تعكس حجم الفارق بين الإدارة التقليدية والإدارة الرقمية، ليس فقط في الوقت، بل في مستوى الرضا العام، ودقة الأداء، وانسيابية الإجراءات.

الأتمتة ترفع أداء المؤسسات الحكومية لأنها تقلّل الاعتماد على التدخل البشري المباشر في المهام الروتينية، وتحدّ من الأخطاء الناتجة عن الإدخال اليدوي، أو تكرار المعاملات، أو ضياع الملفات. الموظف الحكومي، في بيئة مؤتمتة، ينتقل من دور المنفّذ الورقي إلى دور المراقب والمحلل وصانع القيمة. ووفق دراسات التحول الوظيفي في القطاع العام، فإن إنتاجية الموظف الواحد ترتفع بنسب قد تصل إلى 30 أو 35 في المئة بعد تطبيق الأنظمة الرقمية الذكية على نطاق واسع.

من الناحية المالية، تعد الأتمتة من أقوى الأدوات في خفض التكاليف التشغيلية. فالمعاملات الورقية تستهلك وقتًا طويلًا، ومساحات تخزين، وكوادر بشرية، وسلسلة من الاعتمادات المتكررة.

ومع التحول الرقمي، تنخفض تكاليف الطباعة، والأرشفة، والمراسلات الداخلية، كما تتقلص الحاجة إلى المعاملات الحضورية. تقارير اقتصادية تشير إلى أن بعض الحكومات استطاعت تقليص كلف التشغيل الإداري بنسبة تتراوح بين 15 و25 في المئة بعد الانتقال إلى الأنظمة المؤتمتة الشاملة.

الأتمتة كذلك تضرب الفساد في عمقه، لأنها تُنهي الغموض الذي يرافق تعدد الحلقات الإدارية، وتُخضع كل معاملة لمسار رقمي واضح يمكن تتبعه زمنيًا وإجرائيًا.

كل خطوة مسجلة، وكل تعديل موثق، وكل قرار مرتبط بمستخدم وتوقيت محدد.

هذا المستوى من الشفافية يقلّل فرص التلاعب، ويعزز المساءلة، ويعيد بناء الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة.

وفي جانب صنع القرار، تُحدث الأتمتة نقلة نوعية. فعندما تتحول بيانات المواطنين، والموارد، والخدمات إلى بيانات رقمية مترابطة، تصبح قابلة للتحليل الفوري عبر لوحات مؤشرات الأداء، وأنظمة ذكاء الأعمال، ونماذج التنبؤ. عندها لا يعود القرار الحكومي مبنيًا على الانطباع أو الاجتهاد الفردي، بل على أرقام دقيقة ومؤشرات آنية. وهذا ينعكس مباشرة على جودة السياسات الاقتصادية، والاجتماعية، والخدمية.أما على مستوى تحقيق أهداف الحكومة، فإن الأتمتة تمثل الأداة التنفيذية الأكثر فاعلية لترجمة الخطط الاستراتيجية إلى نتائج قابلة للقياس.

ربط منظومة

فكل هدف حكومي في التعليم، أو الصحة، أو الاستثمار، أو التنمية، يمكن ربطه بمنظومة رقمية تقيس مستوى الإنجاز، ونسب التقدم، والفجوات، ومواطن الخلل.

وبذلك تنتقل الحكومة من إدارة ردّ الفعل إلى إدارة استباقية تعتمد على التوقع والتحليل المبكر للمخاطر.

ورغم هذه المكاسب الكبيرة، فإن الأتمتة لا تخلو من تحديات حقيقية. في مقدمتها ضعف البنية التحتية الرقمية في بعض الدول، سواء في سرعة الإنترنت، أو مراكز البيانات، أو أمن المعلومات.

كما أن مقاومة التغيير لدى بعض الكوادر الإدارية تمثل عائقًا نفسيًا وتنظيميًا لا يقل خطورة عن التحديات التقنية. كذلك، فإن غياب التكامل بين الجهات الحكومية يؤدي في بعض الحالات إلى أتمتة جزئية لا تحقق الأثر المنشود لأنها تعيد إنتاج التجزئة الإدارية نفسها ولكن بصيغة رقمية.

لذلك، فإن نجاح الأتمتة الحكومية يتطلب إرادة سياسية واضحة، وإطارًا تشريعيًا داعمًا، وبنية تحتية رقمية آمنة، قبل أي شيء آخر.

كما يتطلب إعادة هندسة الإجراءات الحكومية قبل أتمتتها، لأن تحويل الإجراء المعقّد إلى إجراء إلكتروني لا يلغِي التعقيد، بل يسرّعه فقط. ويظلّ العامل البشري هو العنصر الحاسم في نجاح هذا التحول، عبر التدريب المستمر، وبناء ثقافة رقمية داخل الجهاز الحكومي، وربط التقييم الوظيفي بمؤشرات الأداء الذكية.

إن الأتمتة اليوم لم تعد مشروعًا تقنيًا، بل أصبحت مشروع دولة. دولة تسعى إلى إدارة مواردها بكفاءة، وخدمة مواطنيها بعدالة، وبناء اقتصاد أكثر تنافسية، ونظام إداري أكثر شفافية. الحكومات التي تستثمر بصدق في الأتمتة، لا تستثمر في البرمجيات فقط، بل تستثمر في سرعة القرار، واستدامة التنمية، وتحصين مؤسساتها ضد الهدر والفساد والتخلف الإداري. إنها استثمار في المستقبل قبل أن تكون تحديثًا للحاضر.

مستشار الاقتصادي

 

 

 

 


مشاهدات 48
الكاتب عدنان الدوسري
أضيف 2025/12/10 - 2:37 PM
آخر تحديث 2025/12/11 - 11:30 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 713 الشهر 8303 الكلي 12792208
الوقت الآن
الخميس 2025/12/11 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير