ما بين الفيروز وفيروز.. صوت ملائكي جعل الصباح فكرةً والضوءَ طقساً للطمأنينة
منتصر صباح الحسناوي
كنتُ قد كتبتُ هذا المقال بعد أن أمضينا الليلَ نتسلّقُ نحو قمةِ جبلِ هلكورد، ثاني أعلى جبال العراق، ومع أولِ خيوطِ الشمس وهي تتسلّلُ من وراءِ القِمم، كنتُ أتابعُ خطواتي المتعبة بين ركام الحجر، فجأة، برز أمامي حطامٌ صغيرٌ يلمعُ بلونِ الفيروز، فحملتهُ بين يديّ.
تأملتُ ذلك اللون الساحر الذي يشبه شذرةً من سماء، وشعرتُ ببرودته تتسرّب إلى راحتي، وفي تلك اللحظة، تبادرَ إلى ذهني سؤالٌ، لا أدري من أين أتى؟ :
هل ارتدت فيروز يوماً حجرَ الفيروز؟ وهل أضفى لها شيئاً، أم استعار منها ما يُضفيه؟
أقول ذلك ولا أبحثُ عن جوابٍ حاسم، فبعضُ الأسئلة يكفي أن تُطرح لتفتح باباً في الروح.
بين الصوت والحجر وشائجٌ خفيّة، كلاهما مائلٌ إلى الزرقة، كلاهما منشغلٌ بالسكينة وكلاهما يكره الضجيج.
اللون الذي يبعثُ على الراحة، والنغمة التي تعيد ترتيب الداخل… كأنّ الفيروز «حجراً وصوتاً « وُلدا من الطينة نفسها، طينةٍ نقيةٍ لا تقبل الكسر ولا تسمح بالفوضى.
منذُ قرون والناس يقتنون الفيروز، يعلّقونه على الصدور ويطوّقون به المعاصم ويؤمنون أنّ فيه بَركةً تحمي وتطمئن.
هو حجرٌ يشبهُ شذرةً من سماء، يُتقن ما لا تُتقنه الأحجار الأخرى:
لا يعلنُ عن وجوده «لكنّه حاضر»
لا يلمع «لكنّه يضيء»
لا يتفتت «لكنّه ليس قاسٍ»
هو من نوعٍ ثالث، حجّةُ اللون فيه أقوى من بريقه.
يُقال إنّه يشفي من التوتر، ويحفظ من العين، ويجلب الحظ… لكنّ ما يعنيني أنّه يهمس للجوارح أنّ كلّ شيء سيكون بخير.
وأمّا فيروز، فهي كلُّ ذلك، ولكن بالصوت، صوتٌ ملائكيٌ جعل الصباح فكرةً، والضوءَ طقساً للطمأنينة.
كأنّها تمشي على حبال النغم بخفّة ظل، تلمسُ القلبَ وتمضي، فلا يبقى شيءٌ كما كان.
لم تكن تغنّي لتُبهر ولا لتُبكي، كانت تغنّي لتجعل المستمع ينصتُ إلى نفسه.
النظرُ إلى الفيروز، والإصغاء إلى فيروز، حضورٌ أمام درسٍ صغير في الجمال والذوق.
لونٌ يسرُّ دون أن يصرخ وصوتٌ يأسر دون إنذار، كلاهما يعرّفك على نفسك بصمت.
في عالمٍ مزدحم بالأصوات العالية والأنوار الفاقعة، كان الفيروز استثناءً، وفيروز امتداداً له.
كأنّ صفاء اللون وجدَ في صوتها شكله الآخر، وكأنّها من حيث لا تدري أعادت صياغة المعنى الذي يسكن الحجر.
لم أجد جواباً بعد لسؤالي الأول، وربّما لا احتاج إليه.
فقد تكونُ فيروز ارتدت الفيروز، وقد لا تكون،
لكنّ المؤكد أنّها كالحجر تماماً، تشبه السلام.
*اضاءة
توقد فيروز يوم غد شمعتها التسعين