"شنشنة" السومريين في لغة العرب والعراقيين
رياض الحسيني
تُعدّ مفردة "مامش" الشائعة في لهجة أهل جنوب العراق مثالًا لافتًا على ألفاظ يصعب تحديد أصلها بدقّة. فالمعنى المتداول لكلمة "مامش" هو (لا أملك) أو (لا يوجد شيء)، ويمكن مقاربتها بالعربية الكلاسيكية على أنها تركيب منحوت من عبارة (ما من شئ) وهذا النوع من الاختزال الصوتي معروف قديمًا في العربية بوصفه أحد ظواهر النحت اللغوي. لكن السؤال الأهم: هل هذه المفردة وغيرها تدرّج لغوي عربي بحت أم أنها امتداد لهجات أقدم وطبقات لغوية تعود إلى شعوب عاشت في العراق قبل العربية بقرون؟
للإجابة على هذا السؤال لا بد من البحث الاستقصائي، أي جمع المعلومات من مصادر متعدّدة: العربية وتاريخها كلغة سامية او سامية وسطى كما يسميها البعض ثم اللغات الأقدم التي سبقت العربية بقرون ولا سيما لغات شعوب وادي الرافدين التي أسست إحدى أقدم حضارات الإنسان وتركت أثرًا واضحًا في ثقافة المنطقة ولسانها.
الشنشنة الخاصه في العربية:
رُوي أنّ بعض العرب كان يلبّي في الحج قائلا (لبيش اللهم لبيش) بقصد (لبيك اللهم لبيك) وهذا يبيّن أنّ ظاهرة الشنشنة – أي قلب الكاف شينًا – ليست دخيلة بل معروفة عند قبائل عربية عديدة خاصة حِمْيَر وقضاعة كما أشار إلى ذلك السيوطي في المزهر وابن الطيب في نشر الانشراح. كما ويُروى أنّ أعرابية نادت جاريتها بقولها (تعالي إليّ مولاش يناديش) اي مولاك يناديك ومن الشعر العربي قول القائل:
يا دارُ حيِّيتِ ومن ألم بش
عهدي ومن يحلل بواديش يعش
بيد ان الشنشنة قد اشتهرت أيضًا عند أهل القطيف ونجران وعسير وأجزاء من عُمان والبحرين حيث تُعرف باسم (الكشكشة) فيقولون (مرحبا بش وبهلش وبالجمل الي رحل بش) مع تخصيصها للمؤنث فقط. وهذا يتوافق مع ما ذكره سيبويه من أنّ تميمًا وبعض أسد يجعلون الكاف للمخاطبة المؤنثة شينًا رغبةً في توضيح التمييز بين المذكر والمؤنث في الوقف فقال (فاما كثير من تميم وناس من اسد فانهم يجعلون مكان الكاف للمؤنث الشين، انهم ارادوا البيان في الوقف لانها ساكنة في الوقف فارادوا ان يفصلوا بين المذكر والمؤنث وارادوا التحقيق والتوكيد في الفصل لانهم اذا فصلوا بين المذكر والمؤنث بحرف كان اقوى من ان يفصلوا بحركة). ومن أشهر شواهدها قول مجنون ليلى:
فعيناش عيناها وجيدُشَ جيدُها
ولكن عظمُ الساقِ منشَ دقيق
الأثر السومري والرافديني:
يقودني البحث في جذور هذه الظاهرة إلى احتمال أنّ السومريين وهم سكان أقدم حضارة مدنية معروفة قد استخدموا تحولات صوتية مشابهة وأنّ هذه السمات قد انتقلت فيما بعد عبر الأكديين والآشوريين إلى البيئة العربية. واقول يُحتمل أنّ توسّع الإمبراطورية الآشورية ووصولها إلى مصر قد أسهم في انتقال هذه البنية الصوتية إلى لسان المصريين الذي احتفظ إلى اليوم بنهايات مثالا لاحصرا (معنديش – مشفتش – مكنتش – معرفتش) وهي نهايات قريبة جدًا من الظاهرة الرافدينية التي يُرجّح أنّها قد وصلت إلى مصر إبّان الحكم الآشوري في عهد أسرحدون ثم آشوربانيبال حين غدت الدولة الآشورية أعظم قوة على الأرض بعد السومريين.
لهجة الجنوب العراقي: بقايا حضارات حيّة وشنشنة عامة
ما يؤيد ماذهبت اليه هو أنّ لهجة جنوب العراق ما تزال تحتفظ بمفردات تُعد أقرب إلى السومرية منها إلى العربية وتتميّز بطابع "شنشني" واضح في عدد من الكلمات التي لا نظير لها في لغات أخرى بضمنها العربية وان "مامش" ليست المفردة السومرية الوحيدة التي تبقّت من لغة السومريين عند أهل الجنوب في العراق والتي يلفضها بعضهم "ماميش" فهناك "موش" والتي تعني النفي بمعنى (ليس) و"عليش" وتعنى السبب او على ماذا؟ و"ينوش" وتعني الوصول لشئ ما او غاية و"يحوش" والتي تعني الاحتواء ومنها جاءت كلمة "حوش" وتعني الدار الذي يحوي اهله و"يروش" وتعني الحركة وسط الزحام وغيرها. مفردات (الشنشنية) في اللهجة العراقية الجنوبية لاحصر لها حتى توجّت باسم الملك الاسطوري (كلكامش) الذي يؤكد اسمه ان حرف الشين في اخره او "الشنشنة" كانت جزءا من اللغة السومرية ومفرداتها وثقافتها العامه.
في المقابل فان اللهجة العراقية بشكل عام ولهجة الجنوبيين على وجه الخصوص زاخرة بمفردات توارثتها الاجيال من حضارات جاءت بعد السومريين مثل مفردة "هوش" الاكدية التي يقابلها في اللغة العربية البقرة اليافعه ومفردة "دغش" وتعني الخديعه والتي نسبت الى الارامية التي حكمت سوريا وبلاد الرافدين في القرن السابع قبل الميلاد بحسب ماورد في كتاب تحسين العماره الجزء الثالث.
اذا ماعرفنا ان الامم الناهضة هي التي ترعى موروثها الفكري والثقافي والاجتماعي فلابد ان نسترعي الانتباه الى ان هذه المفردات سومريها وأكديها واراميها آخذة بالاندثار في العراق بفعل تغيّر الأجيال والثورة التكنولوجيه وانتقال الناس من الريف إلى المدن ناهيك عن ازدراء اللهجات المحلية أو النظر إليها بوصفها "عامية" لا قيمة لها قافزين بجهل مركّب على قيمها التاريخية والتراثية والتي تحكي حكايات حضارات كانت يوما هنا حكمت الدنيا وذاع صيتها وخضع لها القاصي والداني سلما وحربا.
(قال الامام الشافعي رحمه الله لصاحبه يونس: يايونس أدخلت بغداد؟! قال: لا، قال: يايونس مارأيت الدنيا ولارأيت الناس).