معيارية الوعي الفني والسردي في نصف السماء للراحل أرشد توفيق
محمود خيون
في روايته( نصف السماء) يكشف الشاعر الراحل أرشد توفيق عن لغته المحصنة بالشاعرية والوصف والتمثيل للاشياء التي تحيط به من كل جانب فهو تارة يرسم للقاريء خطوطا باهته لا تحمل صخب الألوان انما يجعلها كمواج البحر وهي تمازح ظفائرها و تستغيث بقوارب الصيادين كي تتشبث بها وتنأى إلى الضفة الاخرى..وهو في كل ذلك ينقلنا الى عوالم داخلية وبوح نفسي مرهف حين يطل ويوجه اللوم لنفسه( كيف تزوجت كي ابدأ من جديد ياللحماقة ما ذنب هذه المسكينة..انها بالطبع لم تكن تنتظرني وكنت قد نسيتها حين تطلب مني الذهاب الى السوق، يشتد الالم في ساقي اليمنى أن المشكلة لا تكمن في الزواج الذابل الذي يمكن التخلص منه دون الحاجة إلى محامي الذي سيعرقل كل شيء خوفا على مشاريعه) ..بهذه الصورة وغيرها يصور لنا الشاعر ارشد توفيق كل المواقف الرهيبة والمسكونة التي تحاصره بين الفينة والاخرى ،
خوض معركة
فهو في كل لحظة يأتي مع ابطاله لخوض معركة صامتة تهز مشاعر الآخرين من حيث استدراجه لفصول غريبة من حياته وعلاقته بمن حوله..( كنت واقف امام البوابة الرئيسية لتلك الثانوية العتيدة حين دخلت طالبتان جديدتان،فقلت لصديقي انظر الى الملكة وفي اليوم التالي اصبحت الملكة طالبة في صفنا تلك هي زوجتي الآن )) في هذا الموقف نراه يتشبث في ذاكرته من اجل ان يعيد كل المواقف التي مرت عليه وكان يراقب الافضل فيها رغم انه كان يشعر بأنه محاصر من الداخل بأفواج من التساؤلات والحيرة والشعور باللاشيء ولا جدوى من استمرار ذلك الوضع والحال الذي يحيط بمسيرة حياته فكان يفكر بالتمرد والتخلص نهائيا من ذلك الكابوس المرعب الذي يدمر ايامه( انها فكرة مريضة فكل إنسان يستطيع أن يتأمل دائرة واقعه يستغرق بالتأمل فيذهل مما هو فيه انها الصحوة القاتلة )) ..
من كل ذلك نستطيع ان نحقق في كل ماورد من اعترافات دونها الكاتب على لسان ابطال روايته وشخوصه الذين صار يتنقل بهم من فصل لآخر من اللجوء الى ورقة السماح فهو يشعر الآن بحرية تامة تجعل من طائرا يجوب الفيافي والوديان حتى تستقر نظراته على قمم الجبال العالية عند القصور القديمة التي تشكل لديه عوامل عديدة من التصحر الداخلي والغور في اعماق الحقيقة وهنا تكمن معيارية الوعي الفني والسردي لديه رسم المواقف..( لم اعد بحاجة إلى وضع ساعة في معصمي فليست لي اية علاقة بالزمن ان الابراج التي توقفت ساعتها عند السادسة والنصف في تلك الجزيرة البعيدة، تشير على الاقل إلى وقت ما، ان مدفع الساعة التاسعة يهز تلك العقارب الصدئة كيف اعتقد ان الزمن قد توقف تماما، ان الأيام تمضي هنا وتتأسن كالماء الراكد، لا فرق بيني وبين أي حيوان سوى قدرتي على القراءة واستماع الراديو )) ...يتبين للقاريء ان الكاتب كان محقا في كل اختلاجة مرت عليه ولم يحقق خلال ذلك الحضور المهزوم غير الكثير من خيبات الأمل وفي مثل هذه المواقف تشكل حالة انبثاق لنص إبداعي من بين ذلك الركام، انما يعني الاستغراق الجمالي والانساني في تفكيك بنية الخراب وهدم مؤسساته ومقومات وجوده باعتبار الكتابة فعلا من افعال التغيير..
وفي هذا السياق فأنا اتفق مع ما جاء في تقديم زميلي الدكتور اسماعيل عبد الوهاب في أن رواية( نصف السماء) للشاعر الراحل ارشد توفيق تعد من العلامات المضيئة في مسيرة الرواية العربية الحديثة، إذ تمزج ببراعة بين السيرة الذاتية والدراما متعددة الاصوات والازمنة وتكمن قيمتها في ماتحمله من مشاعر انسانية صادقة وبنية سردية متفردة جسد من خلالها الكاتب المكان بروح زمن غابر في لوحة ادبية شاعرية عميقة )) ..
ومن هذا يتضح لدينا جليا ان الحياة التي عاشها الكاتب ارشد توفيق الإنسان قد تستحق ان نسميها بالحياة الباسلة والتي كان يرى فيها ان حياة انسانية بسيطةوواضحة في العلاقات مع الناس هي اعلى درجة من مشاعر صادقة وليست مخادعة مبنية على الخوف والكذب والرياء ومحاصرة النفس البشرية...
ومما تقدم فأن الكاتب ارشد توفيق قد تميز بشاعريته عندما قرر كتابة فصول من حياته على شكل رواية اسماها( نصف السماء) واراد ان يترك النصف الآخر لسموات اخرى اكثر جمالا واعتدالا ومحبة في عالم غابر ومجنون وكأنه يريد التخلص من حلم كان يراوده منذ طفولته فيعترف لنا بالقول الصريح( في طفولتي كان يراودني حلم غريب او كابوس مرعب ان استيقظ صباحا فأجد ان الناس قد ماتوا جميعا وليس هناك من حي في المدينة غيري )) ..
هكذا صور لنا الكاتب ما كان يراوده من هواجس واضطرابات نفسية كانت تتحول الى كوابيس واحلام فاسدة لكنه رغم كل هذا يرى نفسه وهو عائد الى بلدته القديمة وبشخوصها الذين يعرفهم من دون ان يخبر أي من الذين يقابلونه في الطرقات والازقة التي عاش طفولته بها عند تلك الهضاب القصية.