الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
ما بين التدمير والتعمير

بواسطة azzaman

ما بين التدمير والتعمير

كامل الدليمي

 

ما بين التدمير والتعمير مسافةٌ لا تُقاس بالزمن وحده، بل تُقاس بقدرة الإنسان على النهوض من تحت الركام، وبإرادته في تحويل الألم إلى أمل، والخراب إلى حياة.

تلك المسافة التي يعبرها العراق اليوم، بعد عقود من الحروب والحصار والانقسام، هي امتحانٌ لوعيه الجمعي قبل أن تكون اختبارًا لطاقته المادية. فالتعمير لا يبدأ من جرافةٍ تحفر الأرض، بل من فكرةٍ تنبض في العقول، ومن إيمانٍ بأن الحجر لا يقوم دون بشرٍ يضع فيه معنى البقاء.لقد جُرّب في العراق كثير من مشاريع الإعمار الشكلية، التي رفعت البنايات وأقامت الطرق والجسور، لكنها لم تُقم الإنسان الذي يسكن بينها. غاب الإنسان عن معادلة البناء، فبقيت المدن هياكل خاوية، لا تحمل في ملامحها سوى بقايا تعبٍ طويلٍ ووعودٍ مؤجلة.والحقيقة التي لا مفر منها هي أن العراق لا يمكن أن يُعمِّر حجره بمعزلٍ عن بشره؛ لأن الحضارة، منذ فجر التاريخ، لم تُصنع بالحجارة وحدها، بل بالعقول التي نظّمت، والقلوب التي آمنت، والأيدي التي عملت بإخلاصٍ وشرف.

إن التعمير الحقيقي يبدأ حين تضع الدولة الإنسان في مركز خططها، وحين تدرك أن كل مدرسة تُبنى هي لبنة في جدار الوطن، وأن كل طبيب يُدعَم هو حصنٌ للكرامة، وأن كل عاملٍ يجد عملًا كريمًا هو عمودٌ من أعمدة المستقبل.فما جدوى أن نعيد إعمار الجسور إن كانت القلوب منقسمة، وما نفع أن نُقيم ناطحات السحاب إن كانت العقول أسيرة الإحباط واليأس؟لقد آن الأوان لوقفة مراجعة وطنية صادقة، تعترف بأن التحدي الأكبر ليس في إعادة بناء ما تهدّم من مبانٍ ومصانع، بل في إعادة بناء الإنسان العراقي الذي أُنهِكَ بالحروب والسياسات العابرة، وفقد الثقة بمؤسسات بلده.

ذلك الإنسان الذي ينبغي أن يُعاد إليه الأمل، وأن يُفتح له باب المشاركة في صناعة القرار، وأن يُوفَّر له التعليم الجاد، والعمل الشريف، والأمن النفسي والاجتماعي، ليكون فاعلًا لا متفرجًا في مسيرة التغيير.إن الحكومة العراقية اليوم أمام مسؤولية تاريخية، لا تحتمل التأجيل ولا المساومة: مسؤولية تحويل الإنسان من متلقٍ للإعمار إلى صانعٍ له. فكل درهم يُنفق على التعليم هو استثمار في المستقبل، وكل جهدٍ يُبذل من أجل دعم الشباب هو حجر أساس في بناء دولة مستقرة، وكل التفاتة إلى الكفاءات الوطنية المهاجرة هي خطوة لاستعادة روح العراق التي ما زالت تنبض في كل مغتربٍ يحنّ إلى وطنه.لا يُمكن أن ينهض العراق ما لم تتغير فلسفة الإعمار ذاتها: من إعمارٍ في الحجر إلى إعمارٍ في الفكر، ومن مشاريع مادية مؤقتة إلى مشاريع بشرية مستدامة.

إن الإعمار الذي لا يقوم على إصلاح النفوس والعقول سيبقى مجرد طلاءٍ يبهت مع أول عاصفة، أما الإعمار القائم على الإنسان فسيثمر وعيًا، وعدلًا، وإنتاجًا، وسلامًا.

في النهاية، العراق لا يحتاج فقط إلى ميزانيات ضخمة أو خططٍ هندسية معقدة، بل يحتاج إلى إرادة سياسية صادقة تعي أن البشر هم البنية التحتية الحقيقية لأي وطن.فكل حجرٍ يوضع في غير موضعه يُهدر جهدًا ومالًا، لكن كل إنسانٍ يُبنى بناءً صحيحًا يضيف عمرًا جديدًا للوطن .

 

 


مشاهدات 58
الكاتب كامل الدليمي
أضيف 2025/10/24 - 9:17 PM
آخر تحديث 2025/10/25 - 9:31 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 257 الشهر 16718 الكلي 12156573
الوقت الآن
السبت 2025/10/25 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير