مزاميرُ ناجٍ من الحرب
مروان ياسين الدليمي
1:
العصافير لا تطيرُ هنا.
إنها تعزف لحنا من ثقوب الجدران
على الجنود الميتين .
أرى المدينةَ القديمة،
مثل طفلٍ خارجةً من رحم الحطام.
مطرودةً من نومها بأقدامِ الرصاص .
تركلُ أحجارَ الأرصفة
وتقول: نجونا بالصدفة، لا أكثر.
في الشارعِ المنسيّ،
أشمّ طَعمَ الكلمات.
مرَّةٌ كالعَرَق،
وأخرى كفمِ امرأةٍ خائفة
تُقبِّلُكَ
لأنها لا تملكُ لغةً غير القبلة.
أقولُ لنفسي:
هل هذه هي العودة ؟
أم أننا ما زلنا في لحظةِ سقوطٍ متكرّر،
نُزيِّنُهُ بالأغاني كي لا نسمع ارتطامنا؟
2 :
أحاول أن أتماسك،
أن أستعيدَ وجهي من مرايا الآخرين،
لكن الخوفَ يُبدِّدني كعطرٍ أحمق .
أسئلتي
لم تعُد تحبّ الجلوس.
إنها تمشي فوقَ لساني بخطى متعثّرة،
تُسقطُ الحروفَ
كجنينٍ تعبَ من البقاء في رحمِ اللغة.
أسأل:
ما جدوى القصيدة إذا كانت تسكرُ كالمهربين،
وتضحكُ مع الذين يجهلون أنهم ماتوا ؟
ما نفعُ الكلمات إذا دخلتْ إلى قلوبِ الناس
كما تدخلُ المخدّراتُ إلى ممراتِ العصب،
تفصلُهم عن جلودهم،
تجعلُ الضحكَ خيانةً صغيرةً ضدّ الوعي؟
أشمّ رائحة القصائد الجديدة،
كأنها أحذيةٌ عسكريةٌ مغسولة بالنعناع،
أو قبورٌ مزيّنةٌ بورقِ القصاصاتِ الملونة.
الحضور في الحفل مُبتهجون،
لكنّ ابتهاجهم مصنوعٌ من قماشِ ممزق،
تسلّلَ من ثقوبِه الموتُ
وبقي يُصفّر كأنينٍ قديمٍ
يعودُ كلَّما حاولنا النسيان.
أحدهم يرسمُ امرأةً مبتسمةً على جدارِ السجن.
آخر يعزفُ نشيدَ الأمل بأصابعَ مقطوعة.
وأنا ؟
كنتُ أراقبُ ظلّي يتعثّر في لحظةِ الفرح،
كأنهُ يُعلن:
الزمنُ لم يبدأ بعد.
3:
في لحظةٍ ما،
لم أعد أعلمُ
هل كان الهواءُ يتحرّك في صدري
أم أن صدري هو الذي كان يُقلِّدُ الريح ؟
ثمة شيءٌ لا يُرى يهمسُ في أذني:
”كلّ ما حولك يمشي، لكنّه لا يذهب إلى أيّ مكان.”
نظرتُ إلى الشجرة اليابسة في الفناء المقابل،
كانت تُطقطق أصابعها
كعجوزٍ ينتظر حفيده من الحرب،
وكان ظلّها يقرأ صحيفةَ اليوم بخطٍّ مائل
كأنّ الأرض مالت لتفهمها.
السماء
كانت مجرّد صفحةٍ زرقاء
تخربشها الطائراتُ
وتبصق عليها الغيومُ أسماءً
لم يُعرَف من ناداها أولًا.
صوتُ الموسيقى هناك،
في الحفل،
يتنقّل على جدران الروح
مثل قطٍّ خائف،
يتشمم ذاكرة المكان ثم يُموء في وجهي:
”هذا ليس وطنًا…
هذا مأوى مؤقّت للذين نسوا كيف يُحبّون.”
رأيتُ الطمأنينةَ تمرُّ بجواري كجنديٍّ أعمى،
تحملُ وردةً من إسفلت،
وتضحكُ بلا صوت،
كأنها تشعرُ بالحرج من نفسها.
رأيتُ ظلّي ينكمش شيئًا فشيئًا،
حتى صار نقطة،
ثم تلاشى.
ورأيتُني،
أصبح أكثر وضوحًا كلّما قلَّ ضوئي.
4:
في آخر المساء،
حين خفّت أصوات الحفل
كأنّ أحدًا خنق الموسيقى بوسادةٍ ،
وجدتني وحدي…أنا والقصيدة،
ننظر لبعضنا كغريبَين تأخّرا عن القطار ذاته.
كانت تنظر إليّ بعينين من حبرٍ خامد،
تسألني بصمتٍ لزج:
”هل كتبتني كي تنسى، أم كي تتذكّر بصورةٍ ألطف؟”
أجبتُها بلا كلام:
”كتبتكِ كي لا أنهار فجأة.”
أدركتُ حينها أن القصيدة ليست خيانة،
لكنّها أيضًا ليست وفاءً.
هي جسرٌ هشّ بين كلمتين نجتا من الحريق.
أعدتُ التأمل في وجوه الراحلين،
في الذين خرجوا من تحت الركام
وما زالوا يحملون رمادهم كتمائم،
يمضغون اللغة
كأنها آخر كسرةِ خبزٍ من طفولةٍ بعيدة.
لم أعد أبحث عن المعنى.
بل عن طريقةٍ أقلّ قسوةً للحضور.
تعلمتُ أن لا أنتظر القيامة،
بل أن أعيش كأنها حدثتْ
وبقيتُ أنا فقط لأجمع شظاياها
وأصنع منها مرآةً
تُري الوجوه ما لم يُرَ فيها.
وفي المساء ذاته،
عدتُ إلى شرفتي الأولى.
لكنّ الشمس لم تكن هناك.
كان مكانها صوتٌ قديم يقول لي:
”اكتب، لا لتُبرّئ العالم…
بل لتفضحه بالحنين.”