الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الفوارق الإبداعية بين الكوميديا والتهريج


الفوارق الإبداعية بين الكوميديا والتهريج

راجي عبدالله

 

إن من أصعب الحالات التي يمر بها مسرحنا العربي وكذلك المسرح العالمي في بعض البلدان , هي ظاهرة إنتشار المسرح الإستهلاكي الذي لا يتعدى كونه مسرح سطحي الغايات والأهداف , وهو بمجمله مسرح يقترب كثيراً من حفلات السمر التي تقدم على عجالة من أجل الإضحاك , حتى إذا كان ذلك على حساب الغاية الأسمى في تهذيب قيم الإنسان التي نشأ المسرح من أجلها , وهكذا تأثرت الكثير من العروض الإبداعية بما هو سائد من هذه العروض التي أعاقت وبشكل كبير تطور المسرح في الكثير من البلدان العربية  .

وعليه فإن هذا الموضوع يمكن أن يكون على درجة كبيرة من الأهمية , لأنه سيحلل ويناقش الفوارق في الإبداع بين الكوميديا وقواعدها , وبين التهريج الذي لا يلتزم بأية حالة من الأحوال بالقواعد والأصول المتوجبة في أي عرض على خشبة المسرح , فهو مرض من الأمراض المستعصية التي أصابت المسرح العربي في الكثير من البلدان , وهو مرض إستفحل وجوده في المسرح العربي منذ مراحل نشأته الأولى , وإستمر في التأثير السلبي على الذائقة الإجتماعية العامة في غالبية هذه البلدان , مما أثر ذلك على تقبل الأعمال الإبداعية الجادة التي تهتم كثيراً برفع الذائقة الإجتماعية لخلق جيل إجتماعي وإنساني واعِ  ,  يؤثر في الحياة العامة وفي تطور  الشعوب تأثيراً سليماً مبنياً على أسس علمية صحيحة في التعامل مع الكوميديا وأصولها وقواعدها , التي لم تعد تعرف هذه القواعد للجمهور في يومنا هذا , بسبب هذا الكم الهائل من الطبخات الإستهلاكية في العروض التي أخذت تملأ المسارح العربية والفضائيات بإسم الكوميديا , وهي في الحقيقة بعيدة كل البعد عن الكوميديا وأصولها وأهدافها  . وتلك هي الطامة الكبرى !

ولعل هذا المرض الذي أصبح سائداً ومستشرياً  ومؤثراً على نفسية وذهنية الجمهور العربي قد يتراجع تأثيره من خلال الأعمال المسرحية  الكوميدية الجادة التي سأتطرق إليها فيما بعد , على الرغم من أن جمهور المسرح لم يعد يفرق بين الأعمال المسرحية و قد يفهم أن الأعمال الجادة تقتصر على التراجيديا فقط ولا علاقة لها بالكوميديا من بعيد أو قريب , وهذا الأمر غير صحيح وشائع إلى درجة كبيرة حتى عند بعض العاملين في المسرح وعند الجمهور على حد سواء , على إعتبار أن الكوميديا يجب أن تفرح الجمهور وتجعله ينسجم مع العروض   العروض الكوميدية أثناء متابعة مشاهدها على المسرح , بينما الأعمال التراجيدية تزيد من هموهه ومن بكائيته في هذه الحياة العصرية التي أصبحت فيها المشاكل الإنسانية لا تعد ولا تحصى .

نعم . الكوميديا تطهر النفوس وتتغلل في الأحاسيس سريعاً , وتأثيرها واسع النفوذ حتى في مراحل ظهور الكوميديا ( دي لارتا ) في إيطاليا قبل عدة قرون , لأن موضوعاتها بسيطة ومشاهدها وأحداثها تثير البهجة عند تقديمها للمشاهدين الذين كانوا على الأغلب من القروين البسطاء , والذين يتجمهرون لمشاهدة هذه العروض , وكذلك عند مشاهدي مسرح الكابريه في العديد من بلدان أوروبا الذي مازالت عروضه تقدم هنا وهناك في المدن الكبيرة , لكن خطورة هذين النوعين من العروض تكمن في عدم وجود ضوابط إبداعية وفنية وحتى سلوكية , ولا تهدف إلى تهذيب النفس أو المشاعر , بل أنها تهدف إلى الإَضحاك والتسلية حتى إذا كانت مشاهدها مليئة بالصراخ والتهريج والمشاهد الفاضحة , ولا يكون في حسبان المشاركين في تقديمها شيء من الإبداع أو بعض من الأمور الإنسانية الهادفة , سوى وجود هدف واحد هو الإيغال في الضحك والمتعة الظاهرية التي تحققها , من خلال الإسفاف والمبالغة في الأداء الخارجي والصوتي , وفي تقديم المشاهد والشخصيات المتنوعة  الضاحكة . وهذا ما نجده الآن  في الكثير من العروض المليئة بالتهريج التي تزخر بها بعض مسارحنا هنا وهناك .

وفي الحقيقة أنني ترددت كثيراً بالخوض في غمار هذا الموضوع , خاصة أن التهريج بمجمله على خشبة المسرح , لا يرتقي أبداً إلى مستوى الخوض في تحليله والتطرق إلى موضوعته , لأنه بلا موضوعية ولايستحق مني التطرق إليه بأية حال من الأحوال , وهو لا يتناسب مع قيمة الموضوعات التي تطرقت إليها في السابق من الناحية العلمية والفنية , لكني آثرت التطرق إلى هذا الموضوع لأنني إقتنعت في النهاية  أن التطرق إليه وتسليط الضوء على مخاطره ونتائجه السلبية التي أصبحت سائدة , تعطيني الحق في تناول الموضوع من زاوية أخرى للكشف عن هذه المخاطر على الذائقة العامة في تقبل  العروض الإبداعية ,  التي أصبحت تعاني كثيراً من الرأي الذي أصبح سائداً في غالبية المسارح هو تقديم عروض  تعتمد على نجومية بعض الممثلين اللاهثين وراء الشهرة والمال  , و أيضاً وراء الأعمال التي لا تتطلب بذل جهد كبير في وقت طويل ,  قد يشغلهم عن تحقيق حضور دائم بتقديم عروض أخرى هنا وهناك على حساب النوع بل على حساب الكم , وفي هذا ظلم كبير للمسرح الإبداعي المتطور وللفنانين الساعين إلى تقديم عروض إبداعية متطورة   .

ومن أجل إعطاء الموضوع بعداً أخر غير هذا الشيء المتعارف عليه الذي أشرت إليه هنا بالنسبة للكوميديا , يمكنني التأكيد على أنها من  أصعب أنواع الفنون المسرحية قاطبة , لأنها تعتمد على عوامل عديدة , منها نوعية الموضوع وقدرته على التاثير والمتابعة والتواصل مع الجمهور , وتعتمد أيضاً على الممثل المبدع الذي يمتلك حضوراً جيداً على خشبة المسرح , وفي الأساس أنها تعتمد أخيراً على المخرج الذي يستطيع تحويل الأفعال إلى أفعال تؤثر على المشاعر من خلال الصورة المرئية والحدث المرئي على خشبة المسرح , وهذه الحالة تتطلب في المخرج وجود مخيلة متقدة  وحيوية لديه لتحويل ما يجري  من أحداث مسرحية إلى أحداث مضحكة , دون اللجوء إلى الإيغال في تصوير الأفعال الدرامية المضحكة وتحويلها من أفعال صغيرة إلى أفعال تأخذ وقتاً مناسباً لتوصيلها للجمهور , ولهذه الأسباب فأن الكثير من المخرجين يخشون التعامل مع الأعمال الكوميدية أكثر من خشيتهم في التعامل مع الأعمال التراجيدية .

والكومديا على الرغم من صعوبة التعامل معها عند الكثيرمن المخرجين , فهي تستهوي الكثير من أعداد جماهير المسرح أكثر من التي تحضر لمشاهدة المسرحيات التراجيدية , لأنها لا  تعتمد على بلاغة اللغة , ولا تعتمد على البناء الدرامي المحكم والمشاهد المأساوية التي تعالج موضوعات إنسانية مختلفة قديمة كانت أو حديثة عميقة التأثير , بل أن  أحداثها سهلة الفهم ولغتها بسيطة وشخصياتها موجودة وقريبة من الواقع , ولا تعتمد على الرمز أو على الإنتقاء الواضح للشخصيات الممثلة  إلا في المسرح السياسي التقليدي , وفي النهاية فإن أغلب مشاهدتها المرئية تعتمد على مشاهدة شخصيات حية يمكن أن نصادف أمثالها في كل مكان .

 وبهذا يمكن  تقسيم نوعية الأداء لتمثيل شخصيات المسرحيات الكوميدية وطرق أخراجها إلى المسرحيات التي تعتمد على الإضحاك الخارجي في الهيئة والمظهروهي مسرحيات كوميدية تعتمد على ( الكاركتر )  , أو المسرحيات التي تعتمد على الموقف أو على  ( كوميديا الموقف )  , او تلك التي تعتمد على الحالة أو المفاجئة مثل كوميديا ( الحدث ) , وفي النهاية تلك الحالة التي تعتمد على المبالغة في كل شيء  وفي جميع الحالات مثل ( الكوميديا دي لا رتا ) الإيطالية المنشأ , وهذه الحالة هي أخطرها وأسهلها على التوصيل والتي أعني بها حالة التهريج الذي أصبح سائداً في الكثير من المسارح , إعتماداً على الفوضى في التوصيل وإعتمداً على التلقين وكذلك على الخروج عن النص , الذي يصفه بعض العاملين بالتلقائية , وهي في الحقيقة أن  التلقائية  هي من أهم الواجبات التي تقع على عاتق الممثل في أن يكون تلقائياً في أدائه على خشبة المسرح في تمثيل الشخصيات المختلفة , مما يستغرق ذلك شهوراً من التدريب المضني للمثل في بلوغها .

وعلى العكس من هذا وذاك عند التطرق إلى نوعية الحالات الفنية للتعامل مع الشخصيات الكوميديا , فإننا نجد أن نشأة الكوميديا كانت ملازمة لنشأة المسرح إبان ظهور المسرحيات الكلاسيكية اليونانية , حيث كانت تقدم عدة مسرحيات مسرحيات كوميدية مثل مسرحيات أرسطوفانيس , وكذلك في ظهورها وبروز دورها في فترة نشوء وإزدهار المسرح الإليزابيثي  من خلال المسرحيات الكوميدية التي كتبها شكسبير مثل مسرحية حلم في منتصف ليلة صيف , وفي المسرح الفرنسي إنتشرت الكثير من المسرحيات الكوميدية التي كانت تقدم  في باريس والمدن الأخرى على يد رائد الكوميديا الفرنسي جان باتيست بوكلان الملقب ب ( مولير ) مثل مسرحية البخيل  التي قدمت في العديد من بلدان العالم ومنها بلداننا العربية , وكذلك مسرحيات بن جونسن في المسرح البريطاني .  إن هذه الكوميديات ساهمت في نشأة المسرح وفي تطوره لأنها عممت ظاهرة المسرح الإبداعي المتطور سواء كان مسرح يقدم أعمالاً تراجيدية او كوميدية  , من خلال تقديم أعمال راقية المستوى والرقي فيها يبرز من خلال ما كان يقدم على خشبة المسرح من أعمال ترتقي كثيراً بالمسرح وأهدافه السامية التي نشأ من أجلها وتطور بها تطوراً حثيثاً على إمتداد القرون .


مشاهدات 27
الكاتب راجي عبدالله
أضيف 2025/10/04 - 2:48 PM
آخر تحديث 2025/10/05 - 10:39 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 352 الشهر 3052 الكلي 12042907
الوقت الآن
الأحد 2025/10/5 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير