من عالم الوهم والّلافضيلة
قصة حقيقية تصلح فيلماً سينمائياً متميّزاً أو مسلّسلاً درامياً
قاسم حسين صالح
في العام 1987 ألقت الشرطة العراقية القبض على كلّ البغايا والسمسيرات (القوادات ) في محافظات العراق كافة،وجرى جمعهن في معتقل شرقي بغداد. وكان يوجد في حينه مركز للبحوث والدراسات تابع لمديرية الشرطة العامة ،يرأسه لواء شرطة يحمل شهادة دكتوراه في القانون. فاقترحت عليه ان نستغل فرصة هذه (اللمّة) الاستثنائية باجراء دراسة علمية..واستطعنا اقناع مدير الشرطة العام ( مصلآوي لطيف)..فقمت بتجهيز عدتي من اختبارات نفسية واستمارات مسح اجتماعي.
كنت التقيهن في غرفة خاصة بمكان حجزهن ..وكان الشرطي يأتيني بهن واحدة بعد أخرى ،وأختلي بمن تأتي (خلوة علمية طبعا!) وأجري معها مقابلة في اسئلة مفتوحة واخرى مغلقة..فأكملت المقابلات وتطبيق الاختبارات في شهرين على عينة من المحتجزات ضمت (77) بغيا وسمسيرة ،وانجزتها في دراسة حملت عنوان:(البغاء..أسبابها وأساليبها وتحليل لشخصية البغي)، وصفت بأنها الأولى عراقيا وعربيا وعالميا من حيث حجم العينه وعدد وتنوع الأختبارات النفسية.
اهمية علمية
ولأهميتها العلمية والأجتماعية فانها نوقشت في ندوتين :
الأولى ، خاصة باعضاء قيادات الفروع والفرق لحزب البعث في محافظات العراق كافة بدعوة من وزير الداخلية (سمير الشيخلي)..وكان جالسا بينهم ،ولا انسى لحظة رفعها بيده وقال للحاضرين( هاي الدراسة تاخذوها وتثقفون شعبكم بيها)..وسجلتها له انهم كانوا يحترمون العلم رغم ما فعلوا.
والثانية، حضرها أكاديميون جامعيون وباحثون اجتماعيون ، وكنت دعوت الراحل الدكتور علي الوردي. ومن طرائفه أنني حين انتهيت من عرضها ونزلت من المنصة، مدّ يده لي وأخذني لتناول القهوة ،فقال:
تدري دراستك هاي عن (الكحاب!) تذكرني بنكتة. بالاربعينات اتخذت الحكومة قرارا بفتح مبغى (منزول) في بغداد. فاجتمع الأمير عبد الأله ونوري السعيد ووزير الداخلية والصحة .. ليناقشوا في اي مكان في بغداد يفتحونه.. وطال النقاش بينهم هذا يقول بفلان مكان وذاك يقول بفلان مكان.. وكان معهم مصلاوي يجيد النكته..فقال لهم:
* ابوي انتو على ويش هالهوسة..عمي احسن مكان لفتح المنزول هو الميدان، والما يصدك خل يسأل أمّه!
فاستلقوا على ظهورهم من الضحك.. وضغط علي يدي لأفهم ما يقصده!
كان بين البغايا من تثير الدهشة . فأحداهن (بعمر 19 سنة) كانت أخت صاحب مزاد كبير لها ضفيرة بطول متر.وحين أبديت لها استغرابي ..انكرت وقالت انها فتاة عذراء ،فوضعت أمامها ورقة وقلما لتكتب طلبا باجراء فحص طبي يثبت عذريتها..كي اساعدها على اطلاق سراحها..فادعت انها مطلقة..
وأخرى كانت جميلة..أنيقة..لبقة.. و(شخصية!)،ردت عليّ بثقة ،بعد أن وضعت فخذا على فخذ وبان (اللحم الرخيص)..أنه جيء بها بالغلط (وسيطلق سراحي اليوم..وراح تشوف).وفعلا لم أرها في اليوم الثاني ..لكني رأيت سمير الشيخلي،وزير الداخلية، يعيط بشرطة المركز بعد ان علم بأن أحد أفراد حماية كان قد جاء واخذها..فبعث حرسه الخاص مع مفرزة من الشرطة وأعادها للحجز..وأظن ان اقالته بعد اشهر من الوزارة كان بسبب (قحبة !)..أو أحد أسبابها.
وثالثة (وهذه سمسيرة) كانت صاحبة محل اكسسوارات مميزة وأزياء نسائية راقية تشتري منها زوجات مسؤولين كبار..وكانت تحتمي بهنّ دون أن يعرفنّ بحقيقتها.
ولقد اكتشفت أن عالم البغاء غريب بمفاجآته..وأن العوز او تردي الوضع الاقتصادي ما كان هو السبب الرئيس لعدد كبير من البغايا..وأن له بعدا سياسيا..وأن وظيفة بعض الملاهي في بغداد كانت اصطياد الفتيات الجميلات لسياسيين وأصحاب وظائف كبيرة بعضهم بعيد عن الشبهة!..فضلا عن زوجات كان ازواج بعضهن لا يشبعون حاجتهن للجنس!..وبالمناسبة ،كانت نسبة المتزوجات بين البغايا 58 بالمئة مقابل 42بالمئة بين مطلقة وارملة وغير متزوجة!.
على أية حال..قد يأتي وقت نقدم فيه الدراسة بملخصات عن مفهوم البغاء وأسبابه ووسائله،فموضوعنا هنا تقديم قصة حياة أحداهن.
القـــصــــة
بداية ،ان هذه القصة حقيقية لم اضف لها شيئا من عندي ،بل ضغطت أحداثها ،وارى أنها تصلح لأن تكون فيلما سينمائيا مميزا اذا اعتمد التحليل العلمي للبغاء بمعالجة درامية ذكية..تهدف الى نشر الوعي الاجتماعي والاخلاقي بهذه الظاهرة الخطيرة التي اتسع حجمها الآن .صحيح ان مثل هذه القصة تناولتها أفلام تركية وهندية..لكن ان تكون من واقع المجتمع العراقي وبكادر ومعالجة سينمائية عراقية فان وقعها يكون مؤثرا ويحدث صدمة في المشاهد العراقي والسلطة والمسؤولين عن الأخلاق ،بعكس مشاهدة فلم تركي او هندي..اذا استمر يتفرج عليه قال (الله يكفينا الشر).وانا على استعداد للتعاون مع مخرج عراقي وسينارست محترف في كتابة السيناريو والحوار، وسأتحمل جزءا من التكلفة المادية لأنتاجه.
سأقترح أن تكون بداية السيناريو كالآتي:
لقطة من بعيد لمدينة فيها مآذن وقباب..تستعرض الكاميرا اسواقها بهدف اظهار طابعها المحافظ ،ثم تدخل شارعا سكنيا..فزقاقا..فواجهة بيت مكتوب عليه (الحاجة مبروكه).تدخل الكاميرا..لترينا ثلاث نساء حول الحاجة مبروكة (بعمر الأربعينات) ..تشكرها الأولى وتدعو لها بطول العمر وتحاول ان تقبل يدها بعد ان استلمت منها مساعدة مالية..تغادر..تصل الباب..يسألها زوجها الذي كان ينتظر..تجيبه والابتسامة العريضة على وجهها بأن الفرج قد جاء على يد الحاجة مبروكة ..يسيران في الطريق وهما فرحان.عودة الى باب البيت وفيه المرأتان الأخريتان واقفتان فرحتان تدعوان للحاجة بطولة العمر..تخرجان ..تردان الباب دون أن تغلقاه.
نقلة في المشهد اللاحق الى مركز شرطة..نقيب ومعه مفرزة شرطة..يركبون السيارة..تتحرك لتصل الى بيت الحاجة.
النقيب( للسائق):يمك ..هياته البيت
شرطي:سيدي..ما معقوله هذا بيت حجية مبروكة.
النقيب(يخرج ورقة من جيبه ويعيد قراءتها):هو هذا..العنوان مظبوط ..
شرطي آخر: يطرق الباب ..لكن لا أحد يأتي
النقيب يتقدم يفتح،بحذر،الباب المفتوح أصلا ..الكاميرا على الحاجة بلقطة من بعيد وهي مرتدية ثياب الصلاة البيضاء.
الشرطي:شفت سيدي ..حجيه هاي ..الناس يسموها أم الحسنات ..ما خلت محتاج بالمنطقة ما ساعدته.
النقيب يتطلع محتارا بين لقطة على الحاجة مبروكة وهي تصلّي واخرى على الشرطي.
* قطـــــــع
ذلك هو مدخل سيناريو الفلم الذي اوحيت بفكرته فقط ولم اكتبه بتنظيم.واليكم حكاية بطلته التي لا يعرف اهل محلتها ان لهذه المرأة قصة هي اقرب الى الخيال منها الى الحقيقة.
كانت (الحاجة مبروكة،ولنسمها مليحه) شقية..فتاة تحب معاكسة الآخرين ولم تدخل المدرسة قطعا.تعرفت في مراهقتها (13سنة) على شاب ( ربيع )..استسلمت له ..فارتكبا الخطيئة.
كانت أمها حذرة جدا،فالفتاة (وكحه..وما تخاف من أحد)..وكانت تحاول ردعها ولم تستطع ففكرت بأن تزوجها كي تتخلص منها.ولما ضجرت الفتاة من ضغط امها عليها وأدركت انها تنوي تزويجها رغما عنها ..دبّرت لها مكيدة لا تخطر على بال.
كان أخوتها الثلاثة،باستثناء الصغير،متزوجين وكل واحد في بيت..فذهبت الى أشرسهم وأخبرته بأن أمها تريد أن (تسمسر)عليها..فصدقّها .وجمع أخوته واتفقوا على قتلها وأن ينفذ الأمر أصغرهم الذي كان بعمر اقل من 18 سنة.فقتلها وحكم ست سنوات بجريمة غسل العار متهمين أمهم بممارسة الزنا..غير ان التشريح الطبي أثبت أنها لم تمارس الجنس لمدة طويلة حتى مع زوجها.
وفي أحد الأيام كانت ( مليحه)..بنت 14 سنة،في أحد الحمّامات النسائية فرأتها امرأة
( شغلتها سمسيره) فاعجبت برشاقة جسمها وجمال وجهها وخفة دمها..واستطاعت بعد ان عرفت انها (ضايجه )من اهلها أن تهرّبها الى البصرة..واشتغلت بغيا في بيت (ليلى أخت الخوات) التي يسمونها كذلك لأنهن أربع أخوات سمسيرات هنّ:ليلى،نوال،جواهر ،وبدريه.فسكنت في بيت ليلى وكانت تتقاضى عن الممارسة الجنسية الواحدة أعلى أجرا وقدره ( دينارا ومائة فلسا») والزمن هو عام 1970.
وفي أحدى الليالي دخل رجل (ملثّم) ومعه شرطيان الى (المنزول)..وكان هذا الرجل هو شقيق الهاربة مليحه الذي عرفها في الحال ولم تعرفه هي..فاقتادها الشرطيان وحين أجري التحقيق معها في مركز الشرطة قالت ان اسمها (نهاد) وأنها فتاة لقيطة وليس لها عائلة.وحين اختلى بها المحقق ،اعترفت له بأسمها الحقيقي وقالت له بأن أخاها هذا هو الذي يجبرها على ممارسة البغاء وأن الخلاف بينهما مادي.غير أن شقيقها هذا كان سجينا في الزمن الذي ادعته..ولما ضاقت بها الحيلة استنجدت بالشرطة لحمايتها من أخيها الذي سيقتلها حتما..ورجتهم تسليمها الى ابيها.
كانت مليحه حين تقول للشرطة ان والدها يسكن مدينة الحلة مثلا فانها ما ان تبقى بمركز شرطة الحلة اسبوعا او اسبوعين حتى تقول لهم انه يسكن مدينة بعقوبة مثلا..وهكذا ظلت تتنقل تحت حماية الشرطة من مدينة الى أخرى الى ان استطاعت ان تتصل بالشاب الذي أزال بكارتها (ربيع) وهددته ان لم يأتي ويتزوجها ويخرجها من السجن فأنها ستبوح بالأمر الى أخوانها الذين سيقتلونه بالتأكيد..وقبل (ربيع )مرغما فتزوجها ثم طلقها.
عادت (مليحه) الى البغاء..ولكن بعد أن تزوجت سمسيرا..وظلت عنده الى أن تزوج أخرى ،فطلقها..وكان ذلك عام 1975..وعندها التجأت الى الغجر(الكاوليه)..وهنا يبدأ فصل جديد من حكايتها.
بدأت مليحه بممارسة الرقص وتفوقت على الأخريات بخفة حركاتها وأغراءاتها وجمال وجهها الأبيض وشعرها الطويل الأسود..فتزوجها (شيخ)الغجر وبقيت معه ست سنوات الى أن قتل من قبل شخص آخر بسبب اخته المطربة.وما أن دفن الغجري القتيل حتى تزوجت من غجري وسمسير ايضا..وظلت مع الغجر الى عام 1982.
في تلك السنة ،قصدت مليحة مدينتها الأصلية لحاجتها الى جنسية وشهادة جنسية لها ولأبنتيها من الغجري الأول.دخلتها وكانت تبحث في شوارعها عن وجه أبيها الذي صار عجوزا فلمحته جالسا في احد مقاهيها الشعبية..عرفته ولم يعرفها..وحين همست بأذنه أنها ابنته (فلانه) كاد ان يغمى عليه..فطمأنته أنها بخير وأنها متزوجة و(مستوره) وأن عليه أن لا يخبر أخوانها بذلك،فهي العائدة بعد (17)عاما بوضع جديد لا يمكن أن يعرفها أحد ..وتم لها ما أرادت..واشترت ذلك البيت الفخم في حينه وكتبت على واجهته (بيت الحاجة مبروكة)..وزكّت أموالها..وأخذت تتصدق على الناس..لتكفّر،أولا،عن خطيئتها بقتل أمها التي لا يمكن أن تتطهر منها حتى لو اغتسلت بدموعها التي سكبت منها الكثير أمامي ندما.
استقرت في بيتها وأخذت تساعد المحتاجين وتغدق بكرمها في مناسبات الأفراح والأحزان فاكتسبت سمعة طيبة ومكانة محترمة لدى أهل الحي الذي تسكنه والأحياء المجاروة فأطلق الناس عليها أسم ..الحجية مبروكة.
وذات يوم علمت أن زوجها الغجري (الأخير) كان قد قدّم عليها شكوى في أحد مراكز الشرطة ببغداد متهما اياها بأنها اختطفت ابنته من زوجته الأولى ..فتداركت الأمر وتوجهت الى بغداد لتستبق الأحداث قبل أن تصل الشكوى الى مدينتها ويفتضح أمرها..وحين وصلت مركز الشرطة تم التحقيق معها وشهد عليها الغجري فاحتجزت بتهمة السمسرة والبغاء برغم ادعائها أنها تركت هذه (الشغله) منذ خمس سنوات.
بقي أن أقول لكم انها روت لي قصتها وهي تفترش الأرض،واستدعيت ضابط المركز وشرطيين أو ثلاثة للأستماع اليها. فبدت تحكي بلوعة وتبكي بألم لدرجة أن أحد الشرطيين دمعت عيناه ،فيما أسرتنا بدراما بكائية..فغلب تعاطفنا معها على حقيقة انها عملت من الموبقات ما لا يغتفر..مع يقيني بأن المرأة لا تولد بغيا»
*تنويه
اتصل بي منتج لبناني مقترحا عليّ انتاجها مسلسلا تلفزوينيا ،وقال لي بأن مخرجا سوريا سيتصل بي..واتصل فعلا ..واتفقنا ..وقامت سيناريست لبنانية( رانيا الفقي..تعيش الآن في امريكا) بكتابة الحلقتين الأولى والثانية. وحين فاتح المخرج جهة الأنتاج في دبي ..قالوا له ان النص جميل ، لكنه سيوقعنا باشكالية(دينية طائفية) مع العراق ..واعتذروا.
الدعوة ما تزال قائمة لأخراجها بمسلسل درامي ،وحاضر للتعاون مع سينارست لتكون من اجود المسلسلات على صعيد العراق والوطن العربي..ولا يحق لأحد تحويلها الى عمل درامي،وسيتعرض للمسائلة القانونية والأدبية.
ما لم يكن قد حصل على موافقة الكاتب وجريدة (الزمان).