الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
نساء فهمي طائرات بيض لم تلفحهن شمس الرافدين

بواسطة azzaman

نساء فهمي طائرات بيض لم تلفحهن شمس الرافدين:

للمرأة الحضور الأبرز بلوحاتي و التركواز لون عراقي أصيل

عمان - مجيد السامرائي

 

في حلقة من برنامج (اطراف الحديث) الذي تقدمه قناة (الشرقية)  حل الفنان محمود ضيفا عليه ، ومعه تجاذبت الحديث :

قادم من أقاصي كندا، حيث أفقدتك الحروب المتصلة سمعَك وأسنـانَك، وأبقت لك لهاتك وفرشاتك، محمود فهمي.

كيف فقدت سمعك؟

-بعد الإصابة التي تعرّضت لها في الحرب العراقية الايرانية ، حدث تمزّق داخلي، ومن يومها فقدت السمع شيئًا فشيئًا.

كنت أتوقعك ترتدي لونًا آخر غير الذي أراه عليك؟

أنا أحب هذا اللون الرمادي. هو لون محايد وجميل.

لكنه لا يظهر كثيرًا في أعمالك؟

-بل هو حاضر. الرمادي لون مضحّي، يختفي ليُظهر الألوان الأخرى. أراه لونًا نبيلًا، حتى إن بعضهم لا يعدّه لونًا قائمًا بذاته، فهو مزيج بين الأبيض والأسود.

دخان الحروب، هل انعكس على أعمالك الفنية؟

-لم يظهر بعد، لكنني أحتفظ بفكرة أعمل على تطويرها. قدّمت حتى الآن أعمالًا رومانسية، وأخرى في الواقعية التاريخية. تناولت الحرب العالمية الأولى، وفترة تأسيس الدولة العراقية، بل وأشرت إلى شخصيات مثل غيرترود بيل – أو كما يصح أن نقول «مس بيل» – وكذلك أغاثا كريستي.

تحدّثت قبل قليل عن الواقعية السحرية. سماؤك  صافية، دائمًا بلا غيوم؟

- سماء العراق في الغالب مشرقة، تضيئها الشمس. الغيوم عندنا نادرة، وإذا جاءت فهي لفترة قصيرة في الشتاء. وحتى إن غطّت السماء قليلًا، فإنها سرعان ما تمطر، ثم تنقشع لتعود زرقتها. أتذكر أن سماء بغداد قبل أيام كانت زرقاء كالحلّي، فاستغللت هذه الحالة في إحدى لوحاتي، ورسمت السماء صافية مع بقايا غيوم على الأفق بعد المطر، حتى يبرّر انعكاس. أحب دائمًا أن يكون كل شيء متكاملًا.

لكنني لاحظت أنّ النساء في أعمالك يرتدين غالبًا التركواز؟

- التركواز لون عراقي أصيل. أتمنى لو أن علم العراق صار بلون التركواز؛ لأنه لون يبعد الحسد كما يقال، والعراقيون يحبّونه، والنساء يستعملنه حتى في صبغ الأثاث الخشبي.

ألا يبدو أنك متأثر ببوابة عشتار؟ فهي رمز عريق للون التركواز؟

صحيح، اللون التركوازي رافديني أصيل، لكنه لم يظهر في لوحاتي كثيرًا، لأن موضوعاتي لم تتطلّب ذلك. أنا لا أقحم رموزًا لا ترتبط بموضوع اللوحة، فإذا استدعى السياق، أدخلها، وإلّا فلا.

هل صحيح أنك ترسم «الشناشيل»؟ لكني لم أرَ شناشيل في الحلّة، فمن أين أتيت بها؟

- لا، الشناشيل موجودة في الحلّة بكثرة. تجدها في أحياء مثل المهدية، والكراد، والطعيسة، والهيتاويين تحديدًا. اوهي من أقدم أحياء الحلّة القديمة.

وهل كان في تلك الأحياء ما يُعرف ببيت «الماشطة»؟

- نعم، هناك بيوت كثيرة فيها شناشيل، وبيت الماشطة من ضمنها. وغالبًا كان البناؤون المهرة يُجلبون من بغداد، ومن يعمل بالخشب كان يُستقدم من سوريا أو لبنان. سمعت من عائلة مرجان المعروفة في الحلّة أن أحد بيوتهم الفخمة بُني على هذا النحو، وقد جُلب له البناؤون من خارج المدينة. البيت كان ضخمًا واستمر بناؤه سنوات.

قبل أن أراك، كنت أظنّك أقصر قامة، لكن صورتك تظهر طويلًا، وكأنك تشبه لوحاتك؟

- الصور قد تخدع أحيانًا.

واقعية سحرية

أكيد أنت ناوي تخدعنا وتقول إنك واقعي، بينما أعمالك فيها شيء من السحر؟

- أنا واقعي. صحيح أنني أمارس أحيانًا ما يُسمّى بالماجيك، لكنه في الحقيقة مزج بين الواقع والخروج عن المألوف. هو جزء من الواقعية السحرية، لكنني أظل في الجوهر واقعيًّا.

على ذكر «القلم السحري»، هل كنت تمارس الرسم منذ الابتدائية؟

- لم أكن أرسم بأسلوب الماجيك وقتها، لكنني كنت طالبًا متميزًا، وذات مرة حصلت على ميدالية ذهبية في مسابقة للرسم، وكان ذلك عام 1974 تقريبًا.

ومع ذلك، أمضيتَ جزءًا كبيرًا من حياتك في الغربة. قضيت في خاركوف الأوكرانية تسع سنوات سعيدة، وسنة في التشيك، وسنتين في النرويج، ثم اثنتي عشرة سنة في دولة الإمارات، ومنذ عام 2013 وأنا مقيم في كندا، في مدينة تورنتو، حيث أعيش في الداونتاون بشارع كوين.

*وتفخر بك ابنتك ليلى

ليلى ابنتي، عمرها أربعة وعشرون عامًا، وتفتخر بي دائمًا، وتحب أن تسمّيني «ملك التكوين». وهي ظهرت أيضًا كعارضة في إحدى لوحاتي.

*هل ما زلت تحتفظ بالساعات التي أهديت إليك في بداياتك؟

لا، ليس عندي الآن، لكن عندي لوحات لطيور النوارس فوق بغداد، ولوحات أخرى لنساء يرتدين الذهب، ومن بينها لوحة الشاعرة التي ترتدي ثوبًا ذهبيًّا.

*النساء في لوحاتك، ممتلئات الجسم أكثر من المعتاد؟

قدّمت في بعض الأعمال نساءً «مطبطبات» كما نقول بالعراق، أو «مدبدبات». هذا النمط موجود في المدرسة الواقعية الاشتراكية التي كانت سائدة في الاتحاد السوفييتي، حيث كانوا يقدّمون صورة المرأة العاملة القوية، ذات العضلات، في مواجهة الصورة الغربية للمرأة الشقراء الرشيقة. أنا بدوري أحببت أن أُبرز جمال المرأة الممتلئة، وهو نمط حظي بإعجاب كثيرين.

*لكنك تزوجت من روسية ؟

كانت رشيقة وتهتم بالرياضة كثيرًا.

*وابنتك ظهرت كـ «موديل» في لوحاتك؟

صحيح. في أحد معارضي على البوليفار عرضت لوحة لها، كانت تمسك بطيخة في يدها، وإلى جانبها دجاجة.

*البطيخة رمز معروف في أعمال فنية كثيرة، متى ظهرت في لوحاتك؟

هذا موضوع قديم وشائع. كثير من الرسامين، في روسيا وأوكرانيا وغيرهما، رسموا البطيخة باعتبارها رمزًا للصيف والهلال أحيانًا. حتى جواد سليم عندنا رسمها، وكانت تُستخدم كثيرًا كرمز بصري في لوحات متنوعة.

*من هم أساتذتك الذين تتلمذت على أيديهم في أوكرانيا؟

درست على يد عدد من الأساتذة الكبار مثل فيكتور تشاوس، وقنودسكي، وجرادينسكي. بعضهم ما زال على قيد الحياة، وآخرون رحلوا. وكان بينهم فنانون كبار، يرسمون لوحات ضخمة تُعرض في قاعات السينما والمتاحف. ومن أبرزهم الباتاليست، وهو الرسام المتخصص في الحروب والمعارك. كلمة «باتاليست» أصلها من كلمة Battle بالإنكليزية.

*يبدو أنك مولع بالتاريخ، خصوصًا التاريخ الروسي والسوفييتي؟

نعم، عندي اهتمام كبير بالتاريخ. أقرأ فيه كثيرًا وأستلهم منه.

*وأراك فرحًا بجوازاتك، أليس كذلك؟

بالتأكيد. حصلت على الجواز الروسي في فترة وجودي هناك، ثم الكندي بعد استقراري، وإلى جانب ذلك أحمل الجواز العراقي. لكن مهما تعدّدت الجنسيات، أظل عراقيًّا. لا أستطيع أن أتخلّى عن انتمائي الأول، وفخور بكوني عراقيًّا رغم صعوبات الغربة.

* نساؤك في اللوحات… هل هنّ عراقيات حقًا؟

بالطبع، المرأة العراقية هي محور لوحاتي وعملي كلّه. العراق لا يغادر القلب ولا الذاكرة، فمن عاش طفولته بين أزقته لا يمكن أن يتخلى عنه. عشت فيه ثمانيةً وعشرين عامًا، ورغم أنني قضيت خارجه أكثر من ذلك، إلا أن العراق يظل ينبض في كل ما أرسم.

* ولكننا رأينا في أعمالك نساءً ممتلئات… متى دخلت «النحيفات» إلى لوحاتك؟

ذلك حدث في عام 2016، حين تغيّرت طبيعة الجمال في المجتمع، ودخلت النساء عالم الرياضة والجيم. قبل ذلك كانت النساء في لوحاتي ممتلئات الملامح، ثم جاءت مرحلة الرشاقة.

*أنت شخصيًا تبدو نحيفًا، هل السبب في نظام غذائي محدد؟

طبيعتي منذ زمن أن أكلي بسيط، لا أُكثِر ولا أُسرف، وهذا ما حافظ على نحافتي.

*ومن ثمار الأرض… أيّ الفواكه هي الأقرب إلى ذائقتك؟

أحب أن أضع أمامي الفاكهة كجزء من «ستيل لايف» للرسم: العنب مثلًا، أو الرمان. لكن هناك ثمرة تدعى عندنا «لَانكدينيا»، بينما يسميها السوريون «أسكدينيا». لم تتح لي كثيرًا كي أرسمها، لكنها تظل في بالي.

*هذه اللوحة التي سميتها «هذي دمشق»، هل ارتبطت بنزار قباني أم بذكريات شخصية؟

في الحقيقة أردتها تكريمًا للشعب السوري الذي وقف معنا في فترة الحصار. كنت أمتلك ديوانًا لنزار، وقصيدة «هذي دمشق» كانت قريبة إلى قلبي. حين أنجزت اللوحة، وجدت أن هذا الاسم هو الأصدق تعبيرًا عنها.

*في بعض أعمالك نرى «البحرة»، ولكن أين «الشاذروان»؟

الشاذروان شاهدته في بيوت قديمة بالحلة، كبيت القريشي. وفي البيوت الدمشقية القديمة لا يخلو المكان من بحرة أو نافورة، لذا أدخلتها رمزًا إلى دمشق. أما في البيوت العراقية فلم أرسم بعدُ المشهد الداخلي للحوش، إنما رسمت الحدائق والطوابق العلوية. ربما لاحقًا أتناول الداخل بما يحمله من ضوء وظل وتأثيث.

* لديك أيضًا نساء طائرات، كما يقول المثل الشعبي «دخذني وطير بيها للسماوة»... هل الأغنية الشعبية حاضرة في لوحاتك؟

بالتأكيد. عندي لوحة مستوحاة من أغنية سليمة  مراد «الهجر»، وهي في الأصل كلمات عبد الكريم العلاف وغنّتها أولًا زكية جورج. هذه الأغنية كُتبت ولُحنت بسرعة عجيبة في ثلاثينيات القرن الماضي. الأغنية الشعبية دائمًا تسكنني، وأحيانًا تتحوّل إلى لوحات.

* ناظم الغزالي ظهر عندك، لكن سليمة مراد غابت. لماذا؟

ليس امتناعًا، لكنني أعتمد على جودة العمل واستراتيجيته. لا أحب أن أُخرج لوحة لا ترضيني تمامًا. سليمة مراد حاضرة في الوجدان، وربما تأتي في لوحات لاحقة.

* تركت العراق، ودرّست الفن في النرويج، وزوجتك نتاليا روسية... كيف انعكس هذا التنوّع على لوحاتك؟

نتاليا أحبتني لأني واقعي ومشاغب، كما تقول. من النرويج إلى بولندا إلى الشيك، ثم كندا والإمارات… ظلّت المرأة في لوحاتي الحضور الأبرز، ومدينة الأحلام تتشكل بين كل تلك المنافي.

* مع أنك لست كبير السن، إلا أنك تعود في أعمالك إلى الستينيات والسبعينيات... لماذا هذا الحنين؟

لأن ذلك العصر كان طفولتي، وهو العصر الذهبي الذي تربيت فيه. حتى امتدادات الملكية كانت ماثلة، الناس الذين عاشوا تلك المرحلة ظلوا يحكون عنها. لذلك لوحاتي ليست قديمة جدًا، لكنها تحمل ذلك الامتداد الزمني.

* وهل تقترب من عصور أقدم، كبابل أو آشور؟

أراها تراثًا إنسانيًا وعالميًا، لكني لا أستطيع أن أرسم حمورابي أو الثور المجنّح إلا إن كان موضوع اللوحة يستدعيه. وإلا سيبدو الأمر مجرد تزيين أو زخرفة. أنا أشتغل على ما عشته ورأيته أمامي، لا على ما قرأته فقط.

* كثيرًا ما تُقارَن أعمالك بمارك شاغال، هل حقًا هناك تقاطع بينكما؟

نعم، شاغال أيضًا اشتغل على الكائنات المحلّقة والنساء الطائرات، وكثيرًا ما رسم المعزة إلى جانب المرأة. وُلد في بيلاروسيا، ثم هاجر إلى فرنسا وأمريكا، لأنه لم يجد مكانه في الواقعية السوفييتية. الهجرة لم تكن تخصه وحده؛ كثير من الفنانين الروس آنذاك غادروا، مثل ديرنسكي وماليفيتش وباسك وكاروفن، بعضهم عاش في باريس. كلهم كانوا أبناء جيل القيصرية، فلما جاءت الاشتراكية لم يجدوا أنفسهم فيها.

*لكنك لم تنخرط في التجريد كما فعل بعضهم، أليس كذلك؟

صحيح. حاولت أحيانًا، لكنني أحب التشخيص أكثر. التعبيرية لا يمكن أن تُترجَم بقوة إلا عبر الجسد والملامح. شاغال ظل وفيًا لثيماته: الطفولة، المرأة، المعزة، الكائنات الطائرة، والبيوت المقلوبة. لوحاته أقرب إلى الإليسترايشن. أما أنا فاخترت التشخيص، لأنه الأوضح والأصدق لتوصيل التعبير.

* أي حيوان أقرب إلى لوحاتك أنت؟

رسمت اللقلق مرة، ورسمت القط أكثر من مرة، وأيضًا الفرس. حتى الديك والدجاج كان لهما حضور. الحيوان عندي ليس مجرد كائن، بل رمز تعبيري يفتح بابًا للمعنى.

وبالنسبة للموديل البشري، أي هيئة تستهويك؟

أي موديل. نحيفة، ممتلئة، صغيرة، أو حتى بدينة. لا فرق. فكل شكل هو انعكاس لحالة من مجتمعنا، وأنا لا أتعصّب لشكل محدد.

* لكن لماذا رسمت «أغاثا كريستي» بالذات؟

لأنها كتبت عن العراق، وعاشت فيه مع زوجها عالم الآثار ماكس مالوين. كتبت «جريمة في بلاد الرافدين» و»لقاء في بغداد». كنت مراهقًا حين قرأت الترجمة في بيروت، وأثرت فيّ جدًا. مالوين وأغاثا شخصيتان مهمتان في تاريخ العراق الحديث، حتى أن لها كتابًا بعنوان «تعال قل لي كيف تعيش» عن حفريات الخابور. لهذا أردت أن أستحضرها في لوحة.

* وإن سألناك أنت، يا محمود: «قل لنا كيف تعيش»؟

أعيش مع الفن. الفن هو نمط حياتي، لا أستطيع أن أعيش بدونه.

*أنت إذن طائر يوميًّا، تحلّق بخيالك. كيف ترى الجو على ارتفاع آلاف الأقدام؟

حين تهبط الطائرة أتأمل المنظر، لكنني لا أنام. عيشي كله بين منامات يقظة وأحلام ملونة. ليست في النوم، بل في لحظات الاسترخاء، مع الموسيقى أو أثناء المشي أو القيادة. هناك تولد الأفكار، وتظهر البذرة الأولى للوحة، ثم أعود مسرعًا للبيت لأضعها على الورق.


مشاهدات 232
أضيف 2025/09/26 - 5:29 PM
آخر تحديث 2025/10/03 - 12:19 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 58 الشهر 1407 الكلي 12041262
الوقت الآن
الجمعة 2025/10/3 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير