الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
قراءة تحليلية في اعتراف ستارمر

بواسطة azzaman

حلوى الاعتراف البريطاني وسكين الإبادة

قراءة تحليلية في اعتراف ستارمر

أحمد بشير العيلة

 

بداية؛ لا يجب أن ننساق وراء موجة الاعترافات بدولة فلسطينية من الدول الغربية وخاصة بريطانيا، فنحن الفلسطينيين لسنا سذجاً نرضى بقطعة حلوى مقابل كارثة، وقد لاحظت مدى وقوع الكثير من سياسيين ودول ومواطنين في وعاء عسل الاعتراف، ففقدوا القدرة على التحليق في فضاء الفكرة التي تبدو مغرية، بل و(تاريخية) كما صُوِّر لهم، نحن الفلسطينيين أكثر من يشعر ويستشعر بالكارثة، ولا تنطلي علينا الخدع (التاريخية)، ولا يجب علينا أن نصفق للقادة الغربيين، ولا حتى نشكرهم، خاصة وأنهم يمسدون على رأسك بيد، ويناولون السكين للقاتل ليقتلك باليد الأخرى. خاصة وأن حل الدولتين (غير المتكافئتين) ما هو إلا ترسيخ لاحتلال فلسطين، وسلب قانوني لها من تاريخنا ووجودنا.

وهنا أود التأكيد، وأعيد ما قلته في مقالات سابقة، على أن قصة حل الدولتين ووجود كيانية فلسطينية ضعيفة بدون ملامح ولا سلاح ولا جغرافيا تحت اسم (دولة فلسطينية) وليس (دولة فلسطين)، وشتان بين العبارتين، ما هو إلا طوق نجاة للمشروع الصهيوني الذي بدأ ينهار تحت ضغط الرأي العام العالمي، والذي يعني مع تصاعد الخط البياني زوال دولتهم، وطوق النجاة هذا أتى في اللحظة المناسبة لتثبيت (دولة إسرائيل) على خارطة المنطقة حقباً أخرى بهذه الموجة من الاعترافات (غير البريئة) في موضوعة (حل الدولتين).

إن لدينا من أدوات الإقناع بزيف ما هو مطروح الكثير، وسأركز هنا على الاعتراف البريطاني، كون بريطانيا هي أم المشاريع الاستعمارية وما بعد الاستعمارية، وسأستخدم من الأدوات التحليلية مدرستين: البيئية التي تنظر في بيئة النص السياسي والمدرسة المقارِنة؛ التي تنظر في مقارنة النصوص السياسية لاكتشاف الحقائق، وهي المدرسة التي سأبدأ بها. ولن أنظر إلى الإيجابيات وقد طفقت وتدفقت بهوسٍ في وسائل الإعلام.

مبادئ واحدة الوعد والاعتراف

اشتمل نص اعتراف ستارمر على كلمات محددة ودقيقة، اعتُبرت ثقلاُ دبلوماسياً فارقاً، بل واعتبره البعض اعتذاراً مبطناً للفلسطينيين عن وعد بلفور اللعين، بل وصدح السياسيون الفلسطينيون وقد تساووا في الانطباعات بأنه  تثبيت حقِّ شعبنا الفلسطيني في أرضه ومقدساته "  كما قالت حماس في بيانها،   و"إنهاء إنكار وجودنا" كما قالت السلطة الفلسطينية على لسان حسام زملط سفيرها المناضل في لندن.

ومن المقاربات النصية، فإن تصريح الاعتراف لرئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر في 21 سبتمبر 2025، هو إعادة صياغة حديثة لوعد آرثر جيمس بلفور (1848-1930) وزير الخارجية البريطاني والذي كان قبلها رئيساً للوزراء، حيث أن هناك تقارباً كبيراً في الموقف الجوهري بين الوعدين، رغم اختلاف السياق التاريخي والشكل، فكلا التصريحين يعكسان دعمًا بريطانيًا لطموح قومي، ما يشير إلى التقارب والاستمرارية  هو أن النصين السياسيين (الوعد والاعتراف) صدرا عن المؤسسة الاستعمارية ذاتها، التي لا زالت فاعلاً رئيسيًا في تحديد مصير المنطقة، وأن التصريحين محورهما الاعتراف بحقوق قومية، فوعد بلفور اعترف بالحقوق القومية لليهود في إقامة (وطن قومي)، وتصريح ستارمر يعترف بالحقوق القومية للفلسطينيين في إقامة (دولة). وفي كلا التصريحيين، كان الفلسطيني هو الضحية، واليهودي هو المحمِي، كيف؟

تضمن وعد بلفور تحفظًا واضحًا لحماية "الحقوق المدنية والدينية" للطوائف غير اليهودية (أي العرب الفلسطينيين)، أما تصريح ستارمر فقد اقترن الاعتراف بدولة فلسطين فيه بتأكيد العمل على فرض عقوبات على حماس (التي تقود المقاومة ضد الاحتلال)، في إشارة لحماية أمن إسرائيل ومحاربة "الإرهاب"، والذي هو تعبير عن أي شكل من أشكال المقاومة للكيان الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين.

ظهور واختفاء الأرض بين الوعد والاعتراف

ومن المفارقات النصية في إطار مقارنتنا، هي أن وعد بلفور الاستعماري كان قد منح صراحة أرضاً موجودة بالفعل هي أرض فلسطين لليهود دون الرجوع لأصحاب الأرض الأصليين، لكن اعتراف ستارمر جاء معاكساً حيث عمل على تثبيت دولة إسرائيل مع وجود كيان فلسطيني غير مكتمل السيادة، وغير محدد الجغرافيا، أي يمكن قانوناً الآن أن يُنشئ الفلسطينيون دولة لهم على أي جزيرة نائية، تحت اسم (دولة للفلسطينيين)، وقد لا حظنا (محو الجغرافيا) من كل النصوص التي خرجت من الدول التي اعترفت بدولة للفلسطينيين.

إن التصريحين يخدمان مباشرة المصالح البريطانية، فوعد بلفور خدم المصالح الاستعمارية البريطانية خلال الحرب العالمية الأولى بكسب تأييد اليهود عالميًا. واعتراف ستارمر يخدم المصالح البريطانية الحالية بإظهار بريطانيا كدولة تتصدر الدعوة للسلام وتواكب الرأي العام الدولي، محاولة استعادة بعض النفوذ الأخلاقي والسياسي بعد سنوات من الجمود.

وبصراحة فالنصان يحتاجان إلى تحليل أسلوبي علمي للتأكيد على فرضية أن يداً واحدة هي التي كتبتهما رغم مرور 108 سنة بينهما.

اللامعقولية السياسية:

أما تحليل نص الاعتراف البريطاني وفق البيئة السياسية والشعبية المحيطة، فيدل قطعاً على زيفه، فستارمر هذا لا يزال يدعم الكيان الصهيوني بأسلحة حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني، بل وتشارك طائرات تجسس بريطانية في الإبادة، وفي الداخل البريطاني قمعت الحكومة المظاهرات بشدة، بل وحكمت على الجهة التي تنظم الاحتجاجات ضد إبادة الشعب الفلسطيني في غزة (فلسطين أكشن) بأنها حركة إرهابية!

فكيف يعقل أن تعطي حقاً لشعبٍ أنت تساهم في إبادته؟!

إن هذا السؤال يلامس قلب التناقض الصارخ في الموقف البريطاني (والغربي عمومًا) والذي يمكن تفكيكه على النحو التالي:

أولاً: وجود تناقض بين الخطاب والفعل، ما يدل على أن هذه المؤسسة السياسية غير سوية، فخطاب ستارمر (الاعتراف) استخدم لغة القانون الدولي، وعبارات حق تقرير المصير، وإحياء الأمل في السلام. وهذا يمنح بريطانيا غطاءً أخلاقيًا وتقدميًا، ويجعلها تبدو وكأنها تقف إلى جانب (الحل العادل)، لكن الفعل على الأرض من دعم عسكري ومخابراتي بريطاني وتزويد الكيان الصهيوني بالأسلحة (مكونات الطائرات، القنابل، التقنيات الاستخباراتية) التي تُستخدم في عمليات يُعرِّفها القانون الدولي ذاته بأنها قد ترقى إلى مستوى جرائم حرب وإبادة جماعية. ومشاركة القوات أو الأصول البريطانية (مثل طائرات الاستطلاع) يجعلها شريكة في الفعل. كيف يعقل هذا؟!

ولو افترضنا أن السياسة هنا لا تبحث عن العقلانية الأخلاقية، بل عن المصلحة والبراغماتية، حيث الاعتراف بدولة فلسطين هو استثمار سياسي رخيص نسبيًا لبريطانيا، فإن هذه الالتفافات تعمل في حنكة على فرملة الحراك العالمي المتجه باتجاه انهيار المشروع الصهيوني.

الاستدراكية البراغماتية:

إن بريطانيا تحاول استغلال اهتزاز هيبة أمريكا بوجود شخصية غير متزنة كالرئيس ترامب، لإعادة تموضعها كـ "وسيط نزيه" بطرح فكرة دولة فلسطينية، وهي فكرة جميلة لكنها تحمل استدراكية مقيتة، حين استدرك ستارمر بعد إعلانه حق الفلسطينيين في إقامة دولة، وقال: (لكن) "لا يمكن أن يكون لها مستقبل فيها وهذا ليس من حقه، فالشعب الفلسطيني هو من يقرر.

 إن بريطانيا تمد يدها بقفاز دبلوماسي، لكنها في الوقت ذاته تقف مع الصهاينة في معاقبة الشعب الفلسطيني على مقاومته التي يسمونها إرهابًا فيُحاصر ويُقتل. وتشترط حتى كيفية الحكم في تلك الدولة المزعومة.

وليعلم الجميع أن هذا الاعتراف السياسي ما جاء إلا لامتصاص غضب الضحية (الفلسطينيين) والمجتمع الدولي الثائر، ومنحهم أملًا وهميًا يمنعهم من اللجوء إلى خيارات أكثر تطرفًا، والدليل هو قمع المظاهرات وتخويف المؤيدين لفلسطين تحت ذريعة "مكافحة الإرهاب" و"معاداة السامية" حيث يتم خلط النقد بحق للكيان الصهيوني حسب المفهوم الغربي؛ بمعاداة اليهودية عمدًا ، وهنا يخدم الاعتراف شيئيين: الأول هو إسكات الأصوات التي تفضح تناقض الحكومة، حيث لا تريد الحكومة البريطانية أن يذكرها أحد بأنها تشارك في إبادة شعب تعترف بحقه في الدولة. والثاني هو إرضاء الكيان الصهيوني وحلفائه الأقوياء داخليًا لإظهار أن بريطانيا، رغم اعترافها، تظل حازمة ضد "أعداء" الكيان الصهيوني.

إن هذا التناقض لا يعقل أخلاقيًا أو إنسانيًا، على الرغم من محاولته إنجاح الحسابات السياسة الواقعية القائمة على منح الفلسطينيين "ورقة" الاعتراف ، ومنح الكيان الصهيوني "القنبلة" لتدمير حامل هذه الورقة الهزيلة.

 


مشاهدات 488
الكاتب أحمد بشير العيلة
أضيف 2025/09/22 - 3:03 PM
آخر تحديث 2025/09/27 - 4:39 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 118 الشهر 19355 الكلي 12037228
الوقت الآن
السبت 2025/9/27 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير