الشهادة الجامعية لا تعني ثقافة
علي الحارس
كثيرون يظنون أنّ الشهادة الأكاديمية هي صكُّ عبورٍ إلى ميدان الثقافة والمعرفة، فيخلطون بين التعليم النظامي والثقافة الحيّة. غير أنّ هذا الاعتقاد لا يصمد أمام أيِّ تأمّلٍ عميق في معنى الثقافة، ولا أمام ما ذهب إليه أنطونيو غرامشي في رؤيته للمثقف ودوره في المجتمع.
لقد ميّز غرامشي بين نوعين من المثقفين: المثقف التقليدي و المثقف العضوي. فالأول هو الذي يمارس الثقافة بمعناها الضيّق، مقتصرًا على إنتاج المعرفة في إطار النخبة أو المؤسسة الأكاديمية. أما المثقف العضوي فهو ذاك الذي ينغرس في قضايا الناس ويعبّر عن حاجاتهم وتطلعاتهم، ويترجم معارفه إلى فعل اجتماعي حيّ. ومن هنا نفهم أنّ الثقافة ليست شهادة تُعلَّق على جدار، بل هي موقف، ووعي، ومسؤولية، وحضورٌ في ساحة الحياة العامة.
الثقافة في أصلها كلمةٌ مشتقّة من الفعل «ثَقُفَ»، أي استقام وتهذّب وأخذ المعرفة بمهارة. وهي بهذا المعنى أوسع من أن تُحصر في درجات علمية أو أوراق جامعية. الثقافة انفتاح على الأفكار، نقدٌ للذات، وحوارٌ مع الآخر، وبحثٌ عن المعنى. قد يحمل المرء شهادةً عالية، لكنّه يفتقر إلى أبسط قواعد الذوق أو الانفتاح العقلي أو الحسّ الجمالي، فيكون عالمًا بلا ثقافة. وقد نجد في المقابل من لا يحمل شهادةً أكاديمية، لكنّه يمتلك حصافة الفكر، ورحابة الروح، وعمق الاطلاع، فيغدو مثقفًا حقيقيًا.
إنّ الخلط بين الشهادة والثقافة أضرّ بالمجتمعات العربية، إذ جعلنا نغفل عن القيمة الجوهرية للوعي والفكر النقدي، ونكتفي بالمظهر الخارجي للمعرفة. الثقافة ليست زخرفة لغوية ولا استعراض معلومات، بل هي قدرة على الفعل النقدي وتشكيل الوعي الجمعي وتوجيهه نحو الصالح العام.
من هنا يتبيّن أنّ المثقف الحقّ هو الذي يحوّل معارفه إلى طاقة بناء وتغيير، لا من يقف عند عتبات المؤسسات الأكاديمية.
هذا هو جوهر ما أراده غرامشي في فكرة المثقف العضوي: أن يكون الإنسان فاعلًا في قضايا مجتمعه، مرتبطًا بمصير شعبه، متجاوزًا حدود النخبة إلى فضاء الناس.
وفي الختام، الشهادة الأكاديمية قد تفتح بابًا من أبواب المعرفة، لكنها لا تمنح حاملها صفة المثقف. الثقافة فعلُ روحٍ ووعيٍ وضمير، لا مجرّد لقبٍ أو منصب. ومن أدرك ذلك تحرّر من أسر الشكليات، وسار في دروب الوعي الخلّاق الذي ينهض بالمجتمعات ويصوغ مستقبلها.