الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
أنصاف الكتاب ومديح الحاكم


أنصاف الكتاب ومديح الحاكم

فيصل عبد الحسن *

 

    ليس من الغريب أن نجد في القرن العشرين  قصيدة لنزار قباني تلخص أزمة الكتاب والمفكرين الشرفاء في زمننا الحالي، القصيدة بعنوان " حوار ثوري مع طه حسين" واجتزئ منها هذا المقطع الذي يقول فيه الشاعر:"عد إلينا يا سيدي عد إلينا/ وانتشلنا من قبضة الطوفان/ أنت أرضعتنا حليب التحدي/ فطحنا النجوم بالأسنان/ واقتلعنا جلودنا بيدينا/ وفككنا حجارة الأكوان / ورفضنا كل السلاطين في الأرض/ رفضنا عبادة الأوثان/ أيها الغاضب الكبير..  تأمل/ كيف صار الكتاب كالخرفان/ قنعوا بالحياة شمسا ومرعى/ واطمأنوا للماء والغدران/ إن أقسى الأشياء للنفس ظلما/ قلم في يد الجبان الجبان."

      الأسوأ الذي حدث بعد أكثر من عقدين ونصف من موت الشاعر، أن الكتاب صاروا يرضون بالحياة المجردة من غير شمس ولا ماء ولا مرعى ولا غدران ! وأيضا من دون أن يكسروا الأقلام بأكفهم ويقولوا على غرار ما قاله ذلك الشاعر:  أن القلم في كف الكاتب الجبان حرام!

طبائع الاستبداد

      قرأنا السطور التالية التي كتبها عبد الرحمن الكواكبي (1845- 1902)م قبل أكثر من قرن وربع القرن من الزمان وحفظناها عن ظهر قلب وعرفنا اليوم كم كان هذا الرجل شجاعاً، أن الرجل كان شجاع عصره بين الكتاب بحق، وكان ينطق كأنما بما يعيشه كتابنا اليوم في أوطانهم، نسمعه يردد في إحدى مقالاته، في جريدة الفرات، التي كانت تصدر في مدينة حلب، وقد نشر فيها مقالاته عام 1876م قبل إغلاقها بسبب تلك المقالات:  " ألفنا أن نعتبر التصاغر أدباً، والتذلل لطفاً، والتملق فصاحة، واللكنة رزانة، وترك الحقوق سماحة، وقبول الإهانة تواضعاً، والرضا بالظلم طاعة، ودعوى الاستحقاق غروراً، والبحث عن العموميات فضولاً، ومد النظر إلى الغد أملاً طويلاً، والإقدام تهوراً، والحمية حماقة، والشهامة شراسة، وحرية القول وقاحة، وحرية الفكر كفراً، وحب الوطن جنوناً، ترضون بأدنى المعيشة عجزاً، تسمونه قناعة، وتهملون شؤونكم تهاوناً، وتسمونه توكلاً، تموهون عن جهلكم الأسباب بقضاء الله، وتدفعون عار المسببات بعطفها على القدر، إلا والله ما هذا شأن البشر"

      والسبب في هذا التشابه هو التقارب في الأحوال، وأن حياة البشر في أوطاننا اليوم لم تختلف كثيرا عما كانت في سنوات الحكم العثماني، فهي هي، بكل ما عاشه (الكتاب) الأجداد من ملابسات التخلف واستبداد الحكومات، وضياع الحقوق، وتردي الخدمات المقدمة للناس، وحيازة من لا يحق له حيازة ما يحق لغيره، وغير ذلك من الكثير من صنوف الظلم، والخسف والسوء، ولو طبع كتاب عبد الرحمن الكواكبي"طبائع الاستبداد" هذه الأيام، لوجد الكثير من الحكومات تمنعه، وتعتبره من الكتب الخطيرة!

   ولربما أودع كاتبه السجن، كداعية لإثارة الفتنة، والمحتوى الهابط؛ وفضح المسكوت عنه، والحديث بما لا يرضاه الحاكم بأمره، بالرغم من حقوق الإنسان، وحرية الرأي، التي تنادي بها الكثير من الدول، وبالرغم من وجود جمعيات ومنابر كثيرة للدفاع عن المؤلفين والكتاب، وحرية الكتابة، ولربما سيقتل صاحب الكتاب الجديد، كما قتل من قبل صاحب كتاب (طبائع الاستبداد) فعبد الرحمن الكواكبي لم يمت ميتة طبيعية بل مات مسموما بفنجان قهوة عام 1902، وكتب الشاعر المصري حافظ إبراهيم على شاهدة قبره، الذي تجده في مقبرة في نواحي مدينة القاهرة:

      هنا رجل الدنيا هنا مهبط التقى  --------- هنا خير مظلوم هنا خير كاتـب

       قفوا وأقرؤوا (أم الكتاب) وسلموا-------- عليه فهذا القبر قبر الكواكبي

أنصاف الكتاب

     أن تشابه الأحوال مع زماننا الجديد أكيدة بالرغم من القرون التي تفصلنا عن أولئك، وبالرغم من ثورة المعلومات والعولمة، والتطور المذهل لوسائل الاتصال، ووجود رأي عام مؤثر كما حدث ويحدث من إدانات لمن يقترف بحق الكتاب والمؤلفين وأصحاب الفكر، من جرائم، ويعود ذلك بالدرجة الأساس إلى أن في بلداننا لا توجد الآليات اللازمة للدفاع عن هؤلاء الذين يوقظون الأمة، من الكتاب والمفكرين وأصحاب القلم الشرفاء، الذين يدافعون عن حقوق الناس بالحياة الحرة الكريمة، وتلك الآليات لا تبدأ بقوانين تحميهم من جور الحاكم الجائر وحده بل وتنظم حتى حماية نتاجهم الفكري، وحقوقهم المادية من الاستلاب، والسرقة من قبل الآخرين، الذين يرون أن الكاتب في كل زمان ومكان مشروعا للسرقة والاستلاب والقتل أيضا!

   في الحقيقة لم يعد الحاكم الجائر وحده من يريد إسكات هذا الكاتب، وحرفه عن هدفه السامي بل أنضاف إليه أنصاف الكتاب و الذين تعلموا حرفة مديح الحاكم، وتبجيل أعماله حتى لو كانت من باب ذر الرماد في العيون، والعيش في كنفه على ما يحصلون  منه من عطايا وهبات ومراكز ثقافية لا قيمة لها ولا معنى؛ ومكارم تافهة ستفنى بفنائهم.

        *كاتب يقيم في المغرب


مشاهدات 397
الكاتب فيصل عبد الحسن
أضيف 2025/09/03 - 4:03 PM
آخر تحديث 2025/09/05 - 7:35 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 608 الشهر 3593 الكلي 11421466
الوقت الآن
الجمعة 2025/9/5 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير