الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الـ pseudo-Kufic.. حين سحر الخط العربي فناني أوروبا؟


الـ pseudo-Kufic.. حين سحر الخط العربي فناني أوروبا؟

عمرو أبو العطا

 

عبر التاريخ، كانت الفنون وسيلة جوهرية للتواصل بين الشعوب والثقافات، ومن أبرز تجليات هذا التفاعل ما يُعرف بـالـpseudo-Kufic، وهو تقليد بصري أوروبي للخط الكوفي العربي، ظهر خلال العصور الوسطى، برغم أن هذه الزخارف لم تحمل أي معنى لغوي، لكنها عبّرت عن انبهار بصري بالثقافة الإسلامية وتوظيف جمالياتها بشكل خاص، دون فهم كامل لمعانيها.

الخط الكوفي هو أحد أقدم أنماط الكتابة العربية، نشأ في مدينة الكوفة خلال القرن السابع الميلادي، وتميز بزواياه الحادة وبنيته الهندسية الصارمة ، مثّل هذا الخط مصدر إلهام فني، خصوصًا لقدرته على الجمع بين البساطة والتعقيد ، تطور عبر العصور لكنه حافظ على سمة هندسية جمالية جعلته مثاليا للزخرفة، سواء في العمارة أو الفنون التطبيقية ،  فلم يكن غريبا أن يلفت أنظار الفنانين الأوروبيين الذين بدأوا في محاكاته بصريا، لا لغويا .

ظهرت هذه الظاهرة بشكل ملحوظ بين القرنين الثالث عشر والسادس عشر، حين بدأ فنانون أوروبيون باستخدام زخارف مستوحاة من الخط الكوفي في اللوحات والمباني، على الرغم من عدم فهمهم للغة العربية ،  ما أنتجته هذه المحاكاة كان أقرب إلى زخرفة بصرية تعتمد على سحر الخط لا على محتواه ، هذا يبرز كيف يمكن للفن أن يتجاوز الحواجز اللغوية، ويعبر عن الإعجاب الشكلي بجماليات ثقافة مختلفة.

نشأ هذا التقليد في سياق تاريخي وثقافي غني بالتفاعل بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي، خاصة خلال الحروب الصليبية، وعبر طرق التجارة التي ربطت البحر المتوسط بجنوب أوروبا ، هذا التفاعل أدّى إلى دخول عناصر فنية إسلامية إلى أوروبا، حيث لاقت الزخارف الإسلامية، خصوصا الكوفية، إعجابا كبيرا.

الفنانون الأوروبيون دمجوا هذه الزخارف في لوحات دينية وهالات القديسين وملابس الشخصيات المقدسة، كما ظهرت في المعمار والفخار والملابس المطرزة. لكن غالبا ما تم استخدامها كعنصر زخرفي فقط، بمعزل عن الفهم الرمزي أو الروحي للنصوص الأصلية.

هذا النمط من الاستعارة السطحية يسلط الضوء على التوتر الكامن في التبادل الثقافي: فمن جهة، هناك رغبة في التبني الجمالي، ومن جهة أخرى، تقف حواجز معرفية تحول دون إدراك العمق الرمزي للثقافة المُقتبسة ، وهذا يعكس بوضوح أن التداخل الثقافي لا يتم دائما بسلاسة، بل كثيرا ما يكون ممتزجا بالتناقض والاختلاف، وربما بسوء الفهم.

لذلك، فإن ظاهرة الـ pseudo-Kufic تُمثل نموذجا لفن يدمج عناصر من ثقافة الآخر دون أن يُدرك معانيها ، ورغم أن هذه الظاهرة لا تخلو من الإعجاب والانبهار، فإنها تعكس في الوقت نفسه مسافة حضارية ومعرفية، بل وتوضح كيف أن الجمال قد يتحول إلى أيقونة رمزية تخلو من مضمونها الأصلي.

ومن أبرز الأمثلة على استخدام الزخارف شبه الكوفية في الفن الأوروبي، لوحات دينية تصور العذراء والمسيح، مثل لوحة "العذراء والطفل" للفنان سيموني مارتيني من القرن الرابع عشر، حيث تظهر الزخارف الكوفية على الهالات والملابس كمؤثر بصري يمنح المشهد قدسية وروحانية .

كما ظهرت الزخارف في معالم معمارية شهيرة، مثل كنيسة سان ماركو في البندقية، وقصر الكازار في إشبيلية، حيث استُخدمت على الأعمدة والأقواس ، هذه الأماكن عكست مساحات التداخل الحضاري، لكنها في الوقت ذاته أبرزت الطابع الزخرفي الشكلي على حساب العمق الثقافي.

انتقل هذا التأثير أيضًا إلى الفنون التطبيقية، مثل الفخار والخزف، خاصة في فالنسيا وتوسكانا، حيث تم نقل الزخارف الإسلامية عبر التجارة، لكنها فقدت ارتباطها بالمحتوى النصي، واكتفت بتأثيرها البصري ، حتى في أثاث البلاط والملابس المطرزة، ظهرت هذه الزخارف كنوع من الترف الغريب والبعيد عن المعنى.

هذا التوظيف المتنوع يشير إلى مدى تأثر أوروبا البصري بالخط العربي، لكنه في الوقت نفسه يكشف حدود ذلك التأثر، إذ تحوّل الخط إلى زخرفة بلا مضمون، أو إلى رمز مقدس غامض يُستثمر لأغراض بصرية لا معرفية ، لقد أصبح الكوفي في الخيال  الأوروبي صورة  تبعث على الدهشة، لكن دون رابط حقيقي بجذوره الإسلامية.

ما تكشفه هذه الظاهرة هو أن التبادل الثقافي يحتاج لأكثر من مجرد تقليد أشكال ، فالإعجاب البصري وإن كان خطوة أولى، لا يغني عن الفهم الحقيقي للرموز والسياقات التي نشأت فيها تلك الزخارف ، وهذا ما يجعل التبادل الثقافي تحديا، يتطلب وعيا واحتراما متبادلا، لا مجرد نقل زخارف من ثقافة إلى أخرى.

فن الـ pseudo-Kufic يعلمنا أن الجمال وحده لا يكفي لبناء جسور متينة بين الثقافات ، فما لم يصحبه إدراك للمعنى، يبقى الشكل معلقا في فراغ. وهذه الظاهرة، رغم سطحيتها الظاهرة، تعكس تعقيدا ثقافيا عميقا ، فهي دليل على رغبة أوروبا في محاكاة الآخر، وإن كانت غير قادرة على فهمه بالكامل.

لذلك يجب أن نتعامل مع هذه الأمثلة لا بوصفها   مجرد مظاهر زخرفية ، بل كمؤشرات على تاريخ طويل من الانبهار المتبادل، الممزوج بالحيرة وسوء الفهم أحيانا ، وحين نفهم هذا التاريخ نستطيع أن نعيد قراءة فنوننا وتاريخنا بمنظور أكثر وعيا وانفتاحا، لنمنح التبادل الثقافي البعد الحقيقي من الفهم العميق، لا التقليد البصري فقط.

 

 

 

 


مشاهدات 130
الكاتب عمرو أبو العطا
أضيف 2025/08/11 - 2:58 PM
آخر تحديث 2025/08/12 - 12:03 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 371 الشهر 8604 الكلي 11403690
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/8/12 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير