الإعلام الفضائي المقاوم وترتيب أولويات الجمهور
محسن عبود كشكول
شكّل الإعلام الفضائي المقاوم أحد أبرز أدوات النضال الرمزي والمعرفي في مواجهة الاحتلال الصهيوني، ولا سيما خلال معركة «طوفان الأقصى» التي اندلعت في 7 أكتوبر 2023، وأسفرت عن تحوّل غير مسبوق في الوعي الجماهيري الإقليمي والدولي. ومع اشتداد المعركة، تباينت تغطيات القنوات الفضائية العربية الكبرى – مثل قناة الأقصى، والجزيرة، والعربية – في كيفية نقل الأحداث، وتحديد زوايا التركيز، وتوجيه الانتباه العام، الأمر الذي انعكس على ترتيب أولويات الجمهور، وتشكيل مواقفه السياسية والوجدانية.
في هذا السياق، لم تعد القنوات الفضائية مجرّد ناقل للحدث، بل أصبحت طرفًا فاعلًا فيه، من خلال اختيار لغة السرد، والمصادر، والصور الرمزية، والهاشتاغات الرقمية. وقد برز الإعلام المقاوم كقوة مضادة للرواية الرسمية الغربية، ساعيًا إلى كسر الهيمنة الخطابية، وإعادة تعريف المفاهيم المرتبطة بالحق والعدالة والمقاومة.
وانطلاقًا من هذه المعطيات، نتناول دور الإعلام الفضائي المقاوم في إعادة ترتيب أولويات الجمهور خلال معركة طوفان الأقصى، من خلال تحليل أدواته الخطابية والميدانية، وتقييم تأثيراته النفسية والسياسية والاجتماعية في الوعي الجماعي العربي والدولي.
وقد اعتمدت الفضائيات العربية المهتمة بالشؤون الفلسطينية على مجموعة أدوات وتتمثل بالحرص على الحضور المباشر من قلب الحدث، فقد نجحت قناة الأقصى في بث مباشر من ساحات القصف في غزة، موثّقةً لحظات الدمار ومشاهد تصدع المستشفيات والجنازات. وهذا البث الواقعي أحدث ارتباطًا وجدانيًا ذهنياً مع الجمهور، محوّلًا القضية إلى أولوية إنسانية فورية. بالمقابل، قدمت الجزيرة شهادات حية من تحت القصف، من مواطنين عاديين أو مسعفين، ما أثار تضامنًا عالميًا واسعًا ووسّع دائرة التعاطف الشعبي. وهذا النوع من التغطية يعكس الانتقال من الإعلام التوثيقي إلى الإعلام المقاوم كجزء من المقاومة التعبوية.
إعادة ترتيب
كما ركز الاعلام المقاوم على اطلاق الحملات الرقمية والهاشتاغات ومن هذه الحملات (#GazaUnderBombardment و#AlAqsa_Flood ) والتي نشطت في تغطيات تويتر وفيسبوك، إذ ساهمت في إعادة ترتيب الأولويات الإعلامية لدى الجمهور العالمي. دراسة في Global Change, Peace & Security تؤكد أن هذه الوسوم لعبت دورًا محوريًا في جعل القضية فلسطينية محور اهتمام الشباب والمناهضين للهيمنة الإعلامية الغربية.
وقد جرى توظيف الرموز البصرية وتجسيد الضحية في العديد من مضامين القنوات الفضائية، فكانت صور الأطفال والنساء تحت أنقاض غزة أسهمت في وضع البعد الإنساني العاطفي في واجهة القضايا، متفوقة على التحليلات السياسية الجافة، مما دعا الجمهور إلى إعطاء أولوية قصوى للعدالة الإنسانية.
ولم يغب السرد الرمزي والديني عن رصد الإعلام المقاوم لمشاهد مؤثرة مثل الأذان تحت القصف أو تلاوة القرآن تحت النار، مما ربط الرواية بطابع وجودي وهوية دينية، وبالتالي تعميق الشعور بأن القضية ليست فقط سياسية بل مسألة وجودية ثقافية. وهذا يعزز قدرة الإعلام المقاوم على جعل القضية محورًا للهوية والالتزام.
وقد حرصت الفضائيات على مواجهة الإعلام الغربي وفضح الانحياز من خلال كشفت التحيز في تحليلات التغطية الغربية، خاصة الأميركية، التي اعتمدت سردية تميل في الرواية لصالح المواقف الإسرائيلية، ومبتعدة عن العدالة الإنسانية، بينما الإعلام المقاوم قدم سردية العدالة والمقاومة، مساهماً في إعادة توجيه وعي الجمهور العالمي نحو دعم القضية الفلسطينية.
وعند مقارنة تحليلية لمضامين قنوات (الجزيرة والعربية والأقصى) في أثناء معركة طوفان الأقصى لطبيعة التغطية وتشخيص أدوات التأثير وأولويات الجمهور المتحققة، نجد تصدر قناة الأقصى في بثها المباشر والتعبوي من الميدان، والاعتماد على البث الحي ونقلها للشهادات الميدانية التي كانت تعطي الأولوية للمقاومة كأولوية نضالية يومية.
بينما تميزت قناة الجزيرة في تغطياتها التحليلية الحقوقية والإنسانية والاعتماد على التحقيقات ونقل الشهادات الإنسانية، وقد حرصت القناة على وضع القضية في غزة كأولوية أخلاقية وإنسانية شاملة.
أما قناة العربية فقد اعتمدت تحليل رسمي فوقي وتميز خطابها السياسي والتحليلي المعتدل، وفي المقابل هناك تركيز على جوانب الاستقرار الأمني والتحليل السياسي.
وفي المقابل تكشف المقارنة مدى قدرة الإعلام المقاوم على إعادة ترتيب أولويات الجمهور ليس عبر كمية التغطية فقط، بل عبر كيفية العرض، رمزية الأدوات، والوظيفة التوعوية. فقد وظفت قناة الأقصى البث المباشر كبوصلة نضالية، بينما شكّلت قناة الجزيرة نقلة في التعاطف العالمي عبر السرد الإنساني، بينما حافظت العربية على خطاب رسمي محافظ دون تغييب سلم الأولويات.
أولويات الجمهور
وبذلك، يتضح أن الإعلام المقاوم ليس فاعلًا فقط في الشأن الإعلامي، بل هو فاعل نضالي يُعيد كتابة المعنى العام وتصميم أولويات الجمهور على أسس وطنية وأخلاقية.
يبرهن الإعلام الفضائي المقاوم، من خلال تجربته في تغطية معركة «طوفان الأقصى»، على كونه فاعلًا استراتيجيًا لا يكتفي بنقل الحدث، بل يسهم بفعالية في صياغة الوعي الجماهيري، وتوجيه الرأي العام المحلي والعالمي. فقد أظهرت قنوات مثل الأقصى والجزيرة قدراتها التعبوية في ترسيخ أولويات بديلة، تتجاوز الأطر الخبرية التقليدية نحو خطاب تعبوي ووجداني وإنساني. كما كشفت التغطيات المتباينة بين القنوات الثلاث (الأقصى، الجزيرة، والعربية) عن التفاوت في المرجعيات التحريرية، والخيارات السردية، ومدى الانخراط في المعركة الرمزية على عقول وضمائر المتلقين.
لقد أثبتت الأدوات المستخدمة – من البث الحي، إلى الحملات الرقمية، والصور الرمزية، والسرد الديني – أن الإعلام المقاوم لم يعد مجرد وسيط، بل أضحى أداة نضالية توعوية تعمل على إعادة ترتيب أولويات الجمهور، وتحويل التضامن العاطفي إلى موقف سياسي فعّال. ومن هنا، فإن دراسة أداء الإعلام الفضائي المقاوم تمثل مدخلًا لفهم ديناميكيات التأثير الإعلامي في زمن الأزمات، وتشير إلى تحوّل الإعلام من منصة إلى ساحة اشتباك رمزي ومعرفي في معارك التحرر وتشكيل الوعي الجمعي.