الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
مرثية الهامس الأخير.. في وداع زياد الرحباني

بواسطة azzaman

مرثية الهامس الأخير.. في وداع زياد الرحباني

كاظم نزار الركابي

 

يقولون إن البيانو قد صمت إلى الأبد. خبرٌ يشبه إطفاء مصباحٍ وحيدٍ في شارعٍ طويل، لا يُحدث ضجة، لكنه يترك خلفه عتمةً أوسع مما نتخيل. يقولون إن زياد رحل، وإن الدخان الأزرق الذي كان يرسم دوائر من الفكر والسخرية فوق فنجان قهوته قد تلاشى نهائيًا في سماء بيروت. لكن كيف نصدّق برحيل رجلٍ لم يكن عابرًا في حياتنا، بل كان يسكن تفاصيلنا الحميمة، وصمتنا الممتد، وضحكاتنا التي نخفي وراءها مرارة الأيام؟ لم يكن زياد صاحب موسيقى تُسمع في المناسبات الكبرى أو الاحتفالات الصاخبة. كانت موسيقاه، في جوهرها، فنًا خُلق للعزلة، وللأرواح التي أنهكها ضجيج العالم الخارجي. كان ذلك الصديق الخفي الذي لا تحتاج أن تتصل به ليأتيك، يكفي أن تضع إحدى أسطواناته في ليلة أرق، ليجلس معك بصمت، ويفهم كل شيء. كان صوته القادم من الراديو القديم هو رفيق غربتنا داخل أوطاننا، وكان بيانو “أبو علي” هو الحوار الذي نجريه مع أنفسنا حين نفشل في إيجاد الكلمات.

كان البيانو، بين أصابعه، كائنًا حيًا مستقلاً. لم يكن يعزف النوتات بقدر ما كان يطلق تنهداتٍ عميقة، أو يروي نكتةً حزينة. حين نستمع إلى مقدمة “وحدن” أو “اشتقتلك”، نشعر بأن هذه الألحان لم تُكتب لتُعجب الجمهور، بل كُتبت كرسائل شخصية من زياد إلى نفسه، وسُمح لنا، على سبيل المصادفة، أن نسترق السمع. وكذلك كان الساكسفون في موسيقاه، لم يكن يستعرض قوة أو مهارة، بل كان يئنُّ بالنيابة عنا، يصرخ ذلك الشوق المكبوت الذي تخنقه حبالنا الصوتية. لقد حوّل الأوركسترا إلى مجموعة من الأصدقاء، كل واحد منهم يروي جزءًا من حكايتنا. ثم علّمنا زياد ذلك الفن الرقيق والمؤلم: فن الابتسام في وجه الخراب. لقد منحنا درعًا شفافًا لمواجهة الواقع، درعًا منسوجًا من السخرية واللامبالاة الظاهرية. لم تكن نكاته تهدف إلى إضحاكنا بقدر ما كانت تهدف إلى توحيدنا داخل مأساتنا. أن تستمع إلى حوار “زكريا” و”مسيو أنطوان” عن الراتب الذي لا يكفي في مسرحية “بالنسبة لبكرا، شو؟” وأنت نفسك تنتظر راتبك الذي تبخر قبل أن يصل، هو شكل من أشكال العزاء الفلسفي. إنه يخبرك أنك لست وحدك في هذا العبث. لم تكن سخريته سلاحًا فجًا، بل كانت تربيتة حنونة على أكتافنا، همسًا في الأذن يقول: “أنا أفهم هذا الألم السخيف، فلنضحك عليه معًا كي لا يسحقنا”. لقد فعل ما لم يجرؤ عليه فنان آخر: جعل من حياتنا اليومية، بكل رتابتها وقبحها أحيانًا، مادةً لعملٍ فني خالد. حوّل انتظارنا الحزين على الشرفات إلى أغنية، وصاغ من هموم قوائم الكهرباء والماء قصائد وجودية. “أنا مش كافر بس جوعان”، هذه ليست أغنية فحسب، بل هي اختصار لحياة الملايين الذين أُجبروا على مقايضة إيمانهم وأحلامهم بلقمة العيش. حين غنّى عن التفاصيل الصغيرة، هو لم يكن يوثقها، بل كان يمنحها الشرعية والكرامة. كان يقول لنا إن معاناتكم الصغيرة هذه، التي تتجاهلها نشرات الأخبار والخطابات الكبرى، هي في الحقيقة قلب الحكاية، وهي جديرة بأن تُروى وتُغنّى. وكان سيد الكلمة الهامسة. لغته لم تكن لغة الشعراء الكبار المنمّقة، بل كانت لغة المقاهي والأرصفة والحوارات المبتورة. كان يلتقط الكلمات التي نستعملها كل يوم، وينفض عنها غبار الابتذال، ويضعها في سياقٍ موسيقي يجعلها تتوهج بمعنى جديد وعميق

كلماته لا تُغنّى، بل تُقال، تُروى، كأنها سرٌ يأتمنك عليه. (بعتلي شي ورقة عليها شي كلمة... شي حرفين... بيطمنوني إنك بعدك بتحبيني).

هذه البساطة هي عمق التعقيد، هي القدرة على لمس الجرح مباشرةً دون الحاجة إلى بلاغة زائدة.

اليوم، نحن نقف في حضرة هذا الصمت الذي خلّفه غيابه، لا نشعر أننا فقدنا فنانًا مبدعًا أو ثوريًا عظيمًا فحسب. الإحساس أشد قربًا وحميمية. لقد فقدنا ذلك الهمس الذي كان يؤنسنا. فقدنا الرفيق الذي فهم فوضانا الداخلية دون أن نضطر لشرحها، وضحك على تناقضاتنا دون أن يحكم عليها.

لقد ترك المسرح وغادر المقهى، لكن لحنه الأخير لم ينتهِ بعد. سيبقى يتردد في ذاكرتنا، كخلفية موسيقية رقيقة لحياةٍ بأكملها، في قيادة السيارة ليلًا، في الجلوس وحيدًا أمام النافذة، في كل مرة نشعر فيها أن العالم أثقل من أن يُحتمل.

وداعًا يا زياد. وداعًا يا من جعلت من غربتنا وطنًا، ومن قلقنا قصيدة، ومن ألمنا أغنية يمكن الرقص عليها أحيانًا. شكرًا على الموسيقى، وشكرًا أكبر على الصحبة الصامتة.


مشاهدات 143
الكاتب كاظم نزار الركابي
أضيف 2025/07/28 - 2:34 PM
آخر تحديث 2025/07/31 - 1:49 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 412 الشهر 21230 الكلي 11274841
الوقت الآن
الخميس 2025/7/31 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير