قراءة في كتاب فقه التسامح
حسن المغربي
صدرت طبعة جديدة من كتاب المفكر العربي الكبير الدكتور عبد الحسين شعبان الموسوم “فقه التسامح في الفكر العربي – الإسلامي” عن دار النهار في بيروت (2024)، ويفصل نحو عقدين من الزمن بين صدور الطبعة الأولى التي قدّم لها المطران جورج خضر (2005)، والطبعة الثانية التي زيّدها د. شعبان بمقدمة عنونها “التسامح: حصاد الفصول”، وتجدر الإشارة إلى أنه تمّ ترجمة هذا الكتاب إلى اللغة الإنكليزية من جانب المترجم الأمريكي Ted Thornton، كما ترجم إلى اللغة الكردية.
فيما يلي مقتطف، يتناول الكتاب، من مساهمة الأستاذ حسن المغربي، مدير تحرير مجلة “رؤى فكرية” الليبية، في كتاب “جمر الحروف – في الطريق إلى الحرية والحداثة والتنوير” (2024)، الذي صدر عن دار سعاد الصباح للثقافة والإبداع بمناسبة تكريم د. شعبان في “يوم الوفاء» في الكويت وأربيل:
فقه التسامح: الكتاب والقيمة
... ما دامت هذه المقالة، التي تأتي في سياق تكريم الرجل بدولة الكويت، معنيةً بمحاولة قراءة مشروعه الفكري الغني، فإني سأتطرق إلى أحد المباحث، التي اعتنى بمعالجتها في كتابه «فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي: الثقافة والدولة»، الصادر عن دار النهار عامَ 2005؛ لِما له من أهمية مؤكَّدة، وتأثير واضح في كتاباته اللاحقة عن التسامح الديني والتنوع الثقافي؛ مثل: «المسيحيون والربيع العربي/ 2012م»، و«المسيحيون ملح العرب/ 2013م»، و«أغصان الكرمة - المسيحيون العرب/ 2015م».
يقع كتاب «فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي» في 180 صفحة من الحجم المتوسط، ويتألف من خمسة فصول، بالإضافة إلى مقدمةٍ بقلم المطران جورج خضر، وخاتمة، والملاحق، وقائمة المصادر والمراجع، والفهرس العام. وقد فضّل المؤلِّف أن يبدأ كتابه بفقرة من دستور «اليونسكو»، مؤدّاها أن السلم يجب أن يقوم على أساس التضامن الفكري والمعنوي بين بني البشر، باعتبار هذه الفقرة تحمل ثمرة الفكر الليبرالي، الذي أخذ ينتشر في أوروبا بفضل الثورة الصناعية، وما أتت به من حرية اقتصادية وسياسية..
مستوى دولي
ويناقش المؤلف، في الفصل الأول، موضوع «الراهن والتاريخي في مسألة التسامح»، مشيراً إلى أن هذا الأخير في الفكر الغربي، وعلى المستوى الدولي، تراجع بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر ايلول 2001م، غير المتوقعة؛ إذ لم يكن يتصور أحدٌ مهاجمة الولايات المتحدة في عقر دارها! وفي هذا الصدد يقول: «لقد اهتزت صورة التسامح، التي كانت تمثل الطابع السائد للحياة السياسية الغربية.. وظهر الطابع الانتقائي للسياسة الغربية بخصوص الإسلام؛ فالمسلمون الأفغان هم (مجاهدون) أيام الاحتلال السوفييتي، لكنهم (أبالِسَة) عندما يتصدَّوْن للسياسة الأمريكية، والمسلمون الشيعة في إيران وجنوب لبنان (إرهابيون)، وهم غير ذلك إذا تعاونوا مع الولايات المتحدة» (ص50).
وليس هذا فقط، بل حتى بيان المثقفين الأمريكيّين الستين، الذي صدر في أعقاب أحداث سبتمبر، يؤكد الصورة النمطية، التي كرّسها، في المخيال الغربي، صموئيل هنتنغتون في «صدام الحضارات»، وفرانسيس فوكوياما في «نهاية التاريخ».. وهي أن الإسلام أحدثُ تحَدٍّ فكري للنظام الليبيرالي الغربي، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي؛ ذلك بأن المجتمع الدولي ينظر إلى الإسلام نظرة مُريبة، ولا يفرّق -في أثناء ذلك- بين الإسلاميين والشعوب الإسلامية.
وعليه، كثُر الحديث عن «الخطر الإسلامي»، وكأن غالبية المسلمين مجبولة على الإرهاب! ولعل السببَ في ذلك راجع إلى أن الغرب لم ينظر إلى التيار الإسلامي المتعصب بوصفه حالة موجودة في جميع المجتمعات الإنسانية؛ فهو، مثل سائر التيارات المتطرفة النصرانية واليهودية وغيرها، لا يمثل جميع المسلمين. ومن هذا المنطلق، حَرَص المؤلِّف على مناقشة فكرة التسامح في فلسفة عصر التنوير، التي انتشرت في أوروبا إبّان القرنين السابع عشر والثامن عشر؛ بفضل فلاسفة كبار؛ من أمثال: مونتيسكيو وروسو ولوك وديدر وفولتير، الذين أسهموا، بطرق مختلفة، في مواجهة الغيبيات، ودَعَوْا إلى الحرية الدينية والعدالة الاجتماعية والتعايش السلمي بين البشر.وفي هذا الصدد، تحدث عن آراء فولتير، التي تنادي بالأخُوّة البشرية؛ فقال: «لا يستلزم الأمر قدرة فنية عظيمة، أو فصاحة بلاغية متمرّسة؛ للبرهنة على أن على المسيحيين أن يتحمل كلٌّ منهم الآخَر. ومع ذلك، فإنني سأذهب لما هو أبعد.. علينا أن نعتبر كل البشر إخوتنا. ماذا؟.. التركي أخي؟ الصيني أخي؟ اليهودي؟ السّيامي؟... نعم، دون شك.. ألَسْنا جميعاً أبناء الأب نفسه؟ إننا مِنْ خلق الرب ذاته» (ص62). كما أكد أن أطروحة فولتير عن الحرية الدينية أصبحت من الأمور المألوفة في العالم الغربي الحديث، حتى بين المؤمنين بالدين أنفسهم.
ويتطرق الفصل الثاني إلى بعض إشكالات التسامح في الفقه الدولي المعاصر، ولاسيّما لدى الأمم المتحدة؛ بحيث انطلق من تناوُل تطور فكرة التسامح في الغرب؛ بدايةً من حظر تجارة الرقيق، وُصولاً إلى ما بعد الحربين العالميتين، اللتين راح ضحيتهما عشرات الملايين من البشر؛ حيث تأسست هيئة الأمم المتحدة عام 1945م، في أعقاب مؤتمر سان فرانسيسكو؛ من أجل وضع حدّ للحروب بين الشعوب، وتعميم فكرة التسامح وحُسن الجوار والمساواة بين البشر. كما تناول «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان»، الذي صدر عام 1948م، والوثائق الدولية الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية والفصل العنصري والإبادة الجماعية وحقوق الطفل ومسألة الأقليات.
ولدى حديثه عن مفهوم «التسامح» في الإعلان الصادر عن منظمة اليونسكو سنة 1995م -الذي يحث على الاحتفال بيوم 16 نوفمبر من كل عام كيوم دولي للتسامح- ذكر أن التسامح يَعني الاحترام، وقبول الآخر، وتقدير التنوع الثري لثقافات عالمنا، ولأشكال التعبير المختلفة، وللصفات الإنسانية لدينا، وكذا الإقرار بحق الآخرين في التمتع بحقوق الإنسان، وحرياته الأساسية» (ص70).
إن الاختلاف في أسلوب العيش، وطريقة الحياة، أمر طبيعي بين المجتمعات البشرية، سواء من الناحية الاجتماعية أو السياسية أو الثقافية؛ وبالتالي، فإن إلغاء هذا الحق يسبِّب الجمود والجَدْب في المجتمع، ويؤدي إلى حالة من الاستبداد. وفي السياق نفسه، ذكر أن «قبول التعايش والتسامح يَعني الموافقة على ما هو مشترَك، حتى وإنْ كان في نظر الآخَر غير أخلاقي، أو ربَّما أقرب من فكرة الشر، وإن لم يكن شرّاً بالفعل» (ص75).
مسالة التسامح
ويبحث الفصل الثالث، الذي عُنْوِن بـ»الدين والتسامح - الماضي والحاضر»، مسألة التسامح في الديانتين النصرانية والإسلامية؛ ففي الأولى، نجد تحريماً واضحاً، في «العهد الجديد»، لاستخدام العنف، حتى وإنْ كان دفاعاً عن النفس، إلا أن الكنيسة الكاثوليكية، بتأثيرٍ من القدّيس أوغسطين ثم توما الأكْوِيني، قادت حملات شرسة ضد الآخَر؛ مثلما حدث في الأندلس أيامَ محاكم التفتيش، وإعدام الهراطقة، وإحراقهم في أجزاء كثيرة من العالم الغربي، إلّا أن النصرانية في العصور الحديثة تغيرت بفعل الحداثة. وفي هذا الشأن، يقول المؤلِّف إنّ «المسيحية، في فكرها المعاصر، لا تدعو فقط إلى التسامح، ولكنها تقول بالتعاون في الفكر والاجتماع، في ظل المُواطَنَة في البلد الواحد، أو مجموعة من البلاد» (ص89).
وضرب عدة أمثلة -من موقعه الشخصي كرئيس سابق للمنظمة العربية لحقوق الإنسان في بريطانيا- لدفاع الكنيسة عن المسلمين في بلدان المَهاجر، التي قصَدوها هروباً من الاضطهاد؛ إذ كان يتم إيواؤهم في الكنائس، والدفاع عن حقهم في اللجوء أمام سلطات البلد المستقْبِل... وقد أتيح له أن يطّلع بنفسه على حالات ومواقف إنسانية كثيرة هناك، تستحق الإشادة والثناء. أما مسألة التسامح في الإسلام، فقد ذكر المؤلف أن القرآن الكريم تحدَّث عن الحرية الدينية في أكثر من 100 آية، وهو ما يؤكد عدمَ الإكراه أو الإجبار في هذا الدين، واحترامَ الآخر، غير أن خطاب الإسلام السياسي السائد اليوم (الفئة السياسية) يقف عائقاً أمام مبادئ التسامح والحداثة؛ فظلت الثقافة الطاغية في المجتمعات الإسلامية هي ثقافة الإقصاء والعزل، مصحوبة بالتجريم والتحريم، على الرغم من أن للتسامح جذوراً في تاريخ العرب الجاهلي والإسلامي، وثمة معاهدات ووثائق تاريخية تثبت ذلك؛ من مثل: «حِلْف الفضول» عام 590م، و«دستور المدينة»، و«صُلح الحديبية»، و«وثيقة فتح القسطنطينية». وتستند هذه الوثائق -في نظر المؤلف- إلى فكرة مركزية أساسية، تعطي الحقوق، وتحدد الواجبات لبني البشر، مسلمين أو غير مسلمين.
ويَعْرض الفصل الرابع من الكتاب نماذج من تسامح الرسول، صلى الله عليه وسلم، مع أعدائه في كثير من المعارك، التي دارتْ بين المسلمين والمشركين في بداية الدعوة الإسلامية.
بحيث إنه تعامل مع الكفار بالرفق والعفو بعد فتح مكة، رغم ما تعرض إليه من اضطهاد وجحود بسببهم، ولكنه جابَهَ كل ذلك بغير قليل من التسامح، وقابل الكراهية بالمحبة، والإساءة بالإحسان.
ولا شك في أن ذلك التسامح كان إحدى وسائل ازدهار الحضارة العربية الإسلامية. وهنا، يقول المؤلف: «تظهر العبقرية المحمدية، على نحوٍ ساطع، بإطلاق مبدأ التآخي بين المهاجرين والأنصار؛ حيث أصبح كلُّ مكي أخاً للمَديني، والسعي لترويض المتناقضات بين الأوس والخزرج، وبين اليهود والنصارى والمسلمين؛ بكفالة حرية العقيدة، والتعايش، والاعتراف المتبادَل بين ديانات متساوية الحقوق» (ص125).
ثم يعود المؤلف إلى العصر الراهن، ليناقش مواقف التيار الإسلامي المعاصر من مسألة التسامح، مركّزاً بشكل خاص على آراء بعض المفكرين الإسلاميين؛ من أمثال: طارق البشري وفتحي عثمان وفتحي هويدي ورضوان السيد، مشيراً إلى أن أفكارهم تبدو غريبة عن التيار الإسلامي السائد؛ إذ «مازالت الهُوة سحيقة بين الجمهور والنُّخَب القيادية والفكرية، ومازال تيار التجديد والإصلاح الإسلامي داخل التجمعات الإسلامية ضعيفاً» (ص133).
وفي الفصل الخامس، وهو الأخير، يواصل المؤلف الحديث عن التسامح، ولكن هذه المَرّةَ في علاقته بخطاب التنوير العربي؛ من خلال إطلالةٍ على الفكر الإصلاحي الديني والليبرالي العربي - الإسلامي؛ فتوقف عند مقاربة الكاتب اللبناني فرح أنطون، بوصفها أول خطاب عربي معاصر عن التسامح؛ بحيث دعا، في كتابه «ابن رشد وفلسفته»، إلى ضرورة خلق وحدة قومية تتعدى الفروق الدينية، يشترك فيها المسلمون والنصارى على قدم المساواة. وأشار أيضاً إلى محاولات التجديد في الفكر الإسلامي، التي قام بها أمثالُ الكواكبي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ومحمد رشيد رضا، ورفاعة الطهطاوي، وخير الدين التونسي. ولعل الذي جعل المؤلف يلقي نظرة سريعة على آراء هؤلاء المفكرين الإسلاميين هو رغبته في تقديم صورة عامة عن مسألة التسامح في الفكر العربي التنويري الحديث.
وفي خاتمة الكتاب، يعترف المؤلف بأنّ العالم الإسلامي يعيش محنة كبيرة، على الصعيد الدولي، إزاء قضايا التسامح وحقوق الإنسان؛ ذلك بأن العديد من التيارات الإسلامية ما تزال تعيش في التاريخ الغابر، ولا تريد أن تخرج من الماضي! علماً بأننا لا يمكننا ولوج تيار الحداثة، وعالم اليوم، ونحن مكبَّلون بسلاسل القديم، ولغة التمجيد التجريدية، بل لا بدّ في المقابل من نبذ ما عفا عنه الزمن، وتجاوزته الحياة.
«إن استلهام مثل التسامح يتطلب الاعتراف بالآخر المختلِف، وبالحق في الاختلاف، كما يتطلب قسطاً وافراً من الحرية للمرأة ومساواتها مع الرجل، واعترافاً حقيقياً بدور الأقليات وحقوقها العادلة والمشروعة» (ص153)، ونشرَ العدالة الاجتماعية، والإقرار بالخصوصية الثقافية والقومية والدينية.