عباس عبد جاسم.. نَسّاج المعنى ومهندس النقد الثقافي
محمد علي محيي الدين
في مشهدٍ ثقافيٍّ طالما تلبَّدَ بغيوم التكرار والانغلاق، ظهر عباس عبد جاسم كصوت نقديّ لا يشبه سواه؛ صوتٌ خرج من عمق بغداد، متسلّحًا بشغف لا يهدأ، وعقلٍ دؤوب، وسؤالٍ لا يَكِلّ، ليصبح لاحقًا أحد أبرز مَنْ أعادوا رسم حدود النقد الأدبي والثقافي في العراق والعالم العربي.
بدايات من الشريعة إلى مسائلات الخطاب
وُلِدَ عباس عبد جاسم عام 1953 في بغداد، ودرس في كلية الشريعة، وهي خلفية معرفية ستترك أثرها لاحقًا في بناءه التحليلي المتين، وفي قدرته على تفكيك النصوص برؤية تتقاطع فيها الفلسفة والفقه مع الأدب والنقد الثقافي. منذ بداياته في سبعينيات القرن العشرين، انخرط في الصحافة الثقافية العراقية، ثم العربية، ليؤسس عبر أكثر من أربعة عقود حضورًا مركزيًا في مختلف حقول النقد، من القصة إلى الرواية، ومن الشعر إلى النظرية، ومن الأدب إلى الكتابة بوصفها ظاهرةً أنطولوجية.
«الأديب الثقافية».. مشروع لتوطين الحداثة العربية
حين أسّس مجلة وصحيفة «الأديب الثقافية»، لم يكن ينشد إصدارًا صحفيًا عابرًا، بل كان بصدد إطلاق مشروع ثقافي متكامل. لقد تحوّلت «الأديب» إلى منبرٍ للنقد الحداثي وما بعد الحداثي، وباتت مرتكزًا لخطاب نقدي متجدّد يتجاوز الأطر المدرسية التقليدية. وقد استقطبت المجلة أبرز مثقفي العراق والعالم العربي، وغدت موضوعًا لأكثر من رسالة ماجستير وأطروحة دكتوراه، في دلالة على عمق التجربة التي قدّمها الرجل في هذا المنبر الاستثنائي. وكم من ناقد شابّ أو كاتب طموح وجد في «الأديب» نافذته الأولى نحو فضاء النقد الحر.
النقد الثقافي العابر للتخصصات
ينتمي عباس عبد جاسم إلى تلك القلّة من النقّاد الذين لا يكتفون بقراءة النص، بل يسعون إلى إعادة موضعته في سياقه الثقافي والسياسي والاجتماعي. في كتابه اللافت «النظرية النقدية العابرة للتخصصات»، تجاوز مفهوم التخصص الجامد، وأعاد تعريف النظرية بوصفها أداةً لفهم التحولات الكبرى في النص والمجتمع. لقد تعامل مع الظواهر الثقافية بوصفها نصوصًا قابلة للتأويل والتفكيك، سواء كانت أدبية أو فكرية أو إعلامية، مما جعله من رواد النقد الثقافي في العراق.
من الأدب إلى الكتابة
لم يكن مفهوم «الكتابة» عند عباس عبد جاسم مجرد إحالة على إنتاج لغوي أو نصي، بل هو، في تصوّره، ممارسة معرفية تمتح من اللايقين. ففي كتابه «الأدب والكتابة – الإزاحة والإبدال»، يكشف تحوّلات المفهوم الجمالي، ويتحدث عن تفكك الأدب بوصفه نظام تمثيل، وصعود الكتابة كفضاء لا نهائي من الإشارات والمراوغات. إن مقاربته للكتابة تأتي من موقع القلق الحداثي، وتشي بإيمانه العميق بأن النص لم يعُد مرآة للواقع، بل هو صانعه ومؤوِّله في آن.
رائد الميتاسرد في القصة العراقية
أما في الحقل السردي، فقد وصفه النقاد، ومنهم فاضل ثامر، بأنه «سيد اللعبة الميتاسردية في القصة العراقية». كتبَ القصة القصيرة منذ سبعينيات القرن الماضي، وتميّز بأسلوب سردي يعيد كتابة الكتابة نفسها، ويُخضع النص للسخرية الداخلية والتحليل الذاتي. إن ميتاسرده ليس لعبة تقنية، بل وعي حادّ بمأزق التمثيل وانهيار الأشكال الثابتة.
مشروع معرفي متعدد الأبعاد
الذين عرفوا عباس عبد جاسم عن قرب، يصفونه بأنه لا ينام على فكرة، ولا يستقر على يقين. دائم القراءة، دائم الكتابة، ينهض كل يوم ليعيد ترتيب العالم وفق معايير الشكّ والتجريب. وقد ألّف عددًا من الكتب المهمة التي أثرت المكتبة العربية، منها:” النظرية النقدية العابرة للتخصصات»، “الأدب والكتابة – الإزاحة والإبدال»، “النصّ في المرايا – دراسات في الميتاسرد»، “تحولات الخطاب النقدي»، “النقد الثقافي.. من النسق إلى الخطاب»، “كتابة ما بعد الأنساق»، “الكتابة المحايدة – من الخطاب الثقافي إلى السردي»
ولم يكتفِ بالنظرية فقط، بل قدّم تطبيقات دقيقة على النصوص العربية والعراقية، واستند إلى المفاهيم الغربية من فوكو وباختين ودريدا إلى بورديو، لكنه أعاد إنتاجها في السياق العربي دون استلاب.
المثقف العضوي المتفرد
إن أهمية عباس عبد جاسم لا تكمن في عدد كتبه، أو تعدد مشاركاته، بل في موقعه كمثقف عضوي يتقاطع فيه الحفر النظري مع الحسّ النقدي، والبحث الأكاديمي مع الرؤية الجمالية. إنه الناقد الذي لا يكتب فقط عن النص، بل يكتب عبر النص، ويخاطب القارئ بوصفه شريكًا في التجربة الجمالية. في زمنٍ يميل فيه النقاد إلى التأطير والنسخ، جاء عباس عبد جاسم كاستثناء، وكمشروع دائم التجدد، لا يهادن، ولا يكرّر، ولا يغادر أسئلته الوجودية الكبرى.