الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
في دفاع أونامونو عن الحلم والكيخوتية


 في دفاع أونامونو عن الحلم والكيخوتية

زهراء رعد

 

يقدم كتاب (حياة دون كيخوته وسانتشو) للفيلسوف الوجودي ميغيل دي أونامونو مقاربة فلسفية ترمي إلى إعادة النظر في شخصية دون كيخوته، بطل رواية الكاتب الإسباني ثربانتس، بعيدًا عن الطابع الساخر والتصوير الكاريكاتوري الذي أضفاه عليه مؤلفه. فخلافًا للقراءة التقليدية التي ترى في الفارس الجوال مثالًا للجنون و الخيال المعطوب، ينظر إليه أونامونو بوصفه رمزًا للصراع الإنساني مع الحياة، وللبحث المتواصل عن المعنى في عالم تتقاذفه التقلبات. ويرى أن دون كيخوته لم يُخلَّد لأنه عاش، إنما لأنه مات ميتة نبيلة، إذ كان موته بمثابة ختمٍ روحي لمسيرته. إنه صوت إنسانٍ أدرك أن الواقع أقبح من أن يُفهم، وأثقل من أن يُحتمل، وأقسى من أن يُشرح.

ألونسو كيخانو هو الاسم الحقيقي لدون كيخوته، النبيل البسيط الذي لم يكن يسعى إلى متعة عابرة أو نفعٍ شخصيًّ، أذ كان يلاحق المجد والعدالة، وقد أخضع ذاته لهذه الفكرة. وحين أدرك فساد العالم وتشوّه القيم فيه، لم يجد ملاذًا سوى أن يصوغ مهمة بطولية تتجاوز الطاقة البشرية. لقد ألقى بنفسه في مغامرة فدائية لا تجد صدًى في الواقع، فبدت ضربًا من الجنون. غير أن جنونه لم يكن وليد خللٍ في المنطق، بل انبثقَ عن إيمانٍ ونُبل في عالمٍ ضاقَ بتلك الفضائل. فهو لم يخسر عقله عبثًا، وإنما فقده ليولد من جديد في أسمى و أعلى صورة. بدأ كيخانو بإعداد نفسه لما ينتظره من بطولات، فراح يُنظّف أسلحة موروثة، وصنع خوذةً له من الورق المقوى، واختار لنفسه اسمًا جديدًا وهو دون كيخوته، إعلانًا منه عن ولادة جديدة. وقد دفعه هذا التحول إلى الارتماء في عالم كتب الفروسية، حتى كاد يهجر هواياته القديمة كالصيد، بل أهمل إدارة ممتلكاته، وباع جزءًا من أرضه ليشتري به كُتبًا. غذى دون كيخوته روحه بقصص الفرسان النُّبلاء، حتى استحال هو ذاته مشروعًا بطوليًّا قيد التشكل. فالمتعة والسَّلوى التي تقدمها هذه الكتب تجعلها حقيقية في معناها وواقعها الحسي، بل حتى في التأثير الداخلي الذي تتركهُ في النفس. فإذا كانت الكتب تبعث العزاء، وتلهم الشجاعة، وتحرك المشاعر، فإنها في نظر دون كيخوته أشدّ صدقًا من أي محضر واقعي أو سجل تاريخي. وفي تتمّة هذا التحول، عيّن لنفسه تابعًا ورفيقًا وهو سانتشو بانثا، الفلاح البسيط، ذو حكمةٍ سليقةٍ تفوّق بها على من حوله، فاختاره ليشغل منصب حامل السلاح. وهكذا صار دون كيخوته مكتملاً مع سانتشو ليس فقط كحامل سلاح، وإنما كتابع يحرّك إيمانه. فالإنسان يحتاج إلى (آخر) يرافقه، ويعارضه، ويشكّك فيه، ثم يصدقه في مشروعه الكبير. فكان سانتشو هو الحيّز الذي يسمح بأن يتحوّل جنون دون كيخوته إلى خطاب، وصوته إلى معنى. يجسد سانتشو حسبما يرى دون كيخوته البشرية كلها، فاجتمعت فيه البساطة والمعاناة و السخرية و التوجُّس والفضول والضعف، أي كل ما يجعل الإنسان إنسانًا.

استهلّ دون كيخوته رحلته بخروجه من باب خلفي لحظيرة دجاج مهملة، حاملًا أسلحة بالية، و واضعًا على رأسه خوذة ورقية، من دون جمهور ولا تصفيق ولا تمجيد. ورغم أن هذا الخروج بدا مثيرًا للشفقة، إلا أنه يشير إلى أن أعظم الأفعال لا تحتاج إلى إعلان أو احتفاء، لأنها تنبع من إرادة خالصة للخير والعدل. فالعظمة، كما أشار أونامونو، لا تُقاس بالباب الذي نخرج منه، بل بالفعل الذي نُقدم عليه. وقد أحسّ دون كيخوته، آنذاك، بفرحٍ وسعادةٍ عظيمين، إذ بدأ مشروعه بهذه السهولة، وكأنها لحظة اختراقٍ داخلي لحاجز التردد والكسل والامتثال. بيد أن هذا الشعور سرعان ما تبدّد، ذلك لأن يومه قارَبَ على الانتهاء، وهو لم يجد مغامرةً واحدةً تليقُ بفارسٍ نبيل.لكن واقعه ما لبث أن منحه أولى مغامراته، حين التقى امرأتين من بنات الهوى تقفان أمام فندق رثّ. فبدت المرأتان، في عينيه، آنستان نبيلتان؛ رأى فيهن ما لم يره أحد، ولم يجرؤ أحد على رؤيته، ولا حتى هنّ أنفسهن. وعندما ناداهنّ بالآنستين، انفجرن ضحكًا، ليس لأن الكلمة سخيفة، بل لأنها عذبة بشكل لا يُحتمل، وغريبة تمامًا عن قبح العالم الذي يعرفنه. في تلك اللحظة، لامس خياله الواقع لأوّل مرة، مُحدثًا أثرًا غير متوقَّع في من حوله. ذلك اللقب، وإن بدا غريبًا عليهنّ في البداية، أعاد تعريفهنّ بأنفسهنّ. ورغم أن ردّ فعلهنّ الأوّل كان السخرية، فإنّ شيئًا ما في نبرة صوته، أو في صدق نظراته، بدّد تلك السخرية. لقد غير خياله نظرتهنّ إلى أنفسهنّ، وجعلهنّ، ولو للحظة، يرين أنفسهنّ كما رآهنّ، جميلات، نبيلات، وذوات شأنٍ يُحترم. لقد نجح دون كيخوته في زعزعة إدراكهنّ الواقعيّ لأنفسهنّ، وفتح في أفقهنّ إمكانيةَ نظرةٍ إنسانيةٍ إلى موقعهنّ الاجتماعي. وهذا التأثير، وإن بدا لحظيًّا، يعكس روح مشروع دون كيخوته وهو بعثُ عالمٍ مفقودٍ من القيم النبيلة في واقعٍ غارقٍ في الابتذال. يقرر دون كيخوته بعدها مغادرة الفندق، بعد أن أدى ما رآه من واجبات الفروسية الرفيعة، ظانًّا أنه خلّف وراءه سيرةً من المجد، الا أنه لم يترك سوى قصص مسلية تتداولها الألسن في

أروقة الخان.

ثم تمضي الرواية في مسارها نحو إحدى أكثر محطّاتها دلالةً على فكر دون كيخوته وأوهامه، وذلك بعد سلسلةٍ من المغامرات التي أظهرت إصراره على أن يحيا وفق مبادئ الفروسية. ففي وقت متأخر من إحدى الليالي، انطلق دون كيخوته مع تابِعهِ سانتشو في مغامرة، ولم تمضِ المسافة طويلًا أثناء عبورهما سهل مونتييل حتى وقعت أعينهما على ثلاثين أو أربعين طاحونة هواء تنبض بالحركة في الأفق. ولكن ما رآه الفارس لم يكن آلات طحن الحبوب، إنما عمالقة عتاة تجسّدوا له بهيئة أعداء يتعيّن عليه أن يواجههم دفاعًا عن العدالة والفضيلة. سعى سانتشو أن يعيد سيده إلى الواقع، غير أن الأخير لم يتردد لحظة في مهاجمة الطواحين، التي فسر أشرعتها على أنها أسلحة ضخمة تُشهر نحوه.

لم يكن دون كيخوته أعمى في انقضاضه على الطواحين، فهو هاجم ما لا يفهمه الآخرون. فالمردة بحسب تصوّره تمثل قوى الشر، تلك القوى التي تطحن إنسانية البشر وتحوِّلهم إلى عبيدٍ للآلة والإنتاج، بينما تبدو هذه القوى، لدى الآخرين، مجرد آلاتٍ يُنتفعُ بها. وأما من يسخرون منه ويعدّونه مجنونًا، فهم أنفسهم مأخوذون بالخوف من الواقع، ومن السلطة، ومن النظام، ومن الآلة، ومن كل ما هو مألوف ومعتاد. في تلك اللحظة، كان سانتشو مدفوعًا بما اسماه أونامونو بـ (الخوف السانتشوبانثي) وهي نزعة قائمة على الرغبة في النجاة و الواقعية الحذرة ، والتي غالبًا ما تسخر من النزعة الكيخوتية، تلك التي توقظ في النفس توقًا لما يتجاوز المحسوس بحثًا عن المجد و القيم العليا. فعندما رأى سانتشو سيده يستعد لمهاجمة الطواحين،لم يرتعد لأجل سلامته، بل رهبةً من أن يبتلعه الحلم كما ابتلع سيده، ومن خوض معركة تُفسر من قبل (السانتشوبانثيين العقلاء) بأنها عبثًا لا طائل منه. وبينما يخضع الآخرون لهذه الآلات، ويخشونها، ويطيعونها، ينهض دون كيخوته ليقاتلها، معتقدًا أن الخوف من الحقيقة، ومن المواجهة، ومن التضحية، هو ما يجعل الناس يفضلون سلامًا مريحًا على واقعٍ مؤلم. لا يغفل عن الذكر أن سانتشو يعي أن سيده يرى أشياءً لا وجود لها في الواقع، فهو يعلم أن طواحين الهواء ليست عمالقة، وأن معظم مغامراته أوهام متخيّلة. ورغم ذلك، يبدأ تدريجيًّا في تصديق نبل الغاية التي يسعى إليها دون كيخوته، لتنتهي الرواية وهو يحمل في داخله جانبًا من كيخوتية سيده. أن إدراكه بأن البطل لا يكون بطلًا إلا بإيمان من يرافقه، وأن التابع بحاجة إلى حلمٍ يسمو به فوق واقعه المحدود يشكل ماهية العلاقة التي تشد أحدهما إلى الآخر.

وعقب رحلةٍ طويلةٍ من المغامرات، عاد دون كيخوته وسانتشو إلى قريتهما، وقد دنت نهايتها، كما دنت نهاية البطل نفسه. ففي لحظات احتضاره، وبعد ستة أيام من الحمى والإنهاك، صحى دون كيخوته ليعترف بأن عقله قد تحرر من الأوهام التي احاطت بحياته، وفي طليعتها أوهام الفروسية الجوالة. وتسللت إلى وعيه فكرة أن (الحياة حلم) ؛ وهي ذات الفكرة التي نطق بها سيخيسموندو، بطل مسرحية الحياة حلم لبيدرو كالديرون دي لاباركا. وكما يصل سيخيسموندو إلى قناعة مفادها أن كل ما عاشه قد يكون مجرد حلم، تُفضي رحلة الفارس الحالم إلى إدراك الحقيقة ذاتها بأن حياته لم تكن سوى حلم كيخوتي، مشبع بالوهم، و لكنه أيضًا حلم نبيل، ينطوي على إحالة فكرية تتجاوز الواقع. فكلاهما عاش حياةً ملتبسةً بين الواقع والمتخيَّل، لكن موتهما يجسد وعيًا مختلفًا، يُعبّر عن توحد مصير الإنسان الباحث عن الحقيقة، في عالمٍ يعجّ بالزيف.

استدعى دون كيخوته أصدقاءه في لحظاته الأخيرة، وأعلن أنه لم يعد ذلك الفارس المجنون، بل ألونسو كيخانو الطيب. لكنه لم يكتفِ بالتخلي عن اسم دون كيخوته، وهو ما سمّاه أونامونو الجنون الأخير. هذا التحول يبدو، للوهلة الأولى، مظهرًا من مظاهر التعقّل، لكنه في نظر أونامونو، أقسى أشكال الجنون، لأنه يحدث في اللحظة التي يعجز فيها الإنسان عن تصحيح مسار حياته. لقد استفاق دون كيخوته من حلمه، لكنه استفاق لكي يموت، ولهذا لم يعد لتعقّله أي معنى فعلي، بل لعلّه كان أقل قيمةً من جنونه. فربما كان جنون دون كيخوته هو الشكل الوحيد الممكن للبطولة والكرامة في واقعٍ يزدري القيم النبيلة. أما المفارقة الأشدّ وقعًا، فهي أن دون كيخوته، وإن بدا مهزومًا أمام الموت، فقد انتصر عليه بالحياة التي عاشها، وبالإرث الذي تركه، وبالحلم الذي بثّه في الآخرين. وهنا ينهض سانتشو، وقد بلغ ذروة الجنون، أو بالأحرى ذروة الإيمان بدون كيخوته، ليغدو حامل راية الكيخوتية وأمل استمرارها. فإذا ارتدى سانتشو درع سيده، وامتطى صهوة جواده، وحمل رمحه، فلن تموت الكيخوتية، و ستُبعث من جديد في تابعٍ صار هو السيد. وهكذا، استحال سانتشو كيخوتيًا، ودون كيخوته سانتشويًا، إذ بات كلٌّ منهما يُكمل الآخر. ناشد سانتشو سيده حينها أن يعود عن رشده، غير أن دون كيخوته لم يكن قادرًا على الرجوع، فقد فات الأوان، لأن الحياة، شأنها شأن الموت، كانت قد حسمت أمرها. يا لها من مأساةٍ إنسانيةٍ، لا يستطيع الخيال أن ينقذ صاحبها منها. أَوَليس الإيمان كافيًا؟ أَيجب أن نتألم لنصل الى ما نؤمن به؟ أم أنّنا لا نولدُ إلا حين نُهزم؟ هذا ما كتبه ميغيل دي أونامونو في سيرة الفارس النبيل، وسيرة كل إنسان.


مشاهدات 120
الكاتب زهراء رعد
أضيف 2025/07/21 - 3:26 PM
آخر تحديث 2025/07/22 - 11:10 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 384 الشهر 14291 الكلي 11167903
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/7/22 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير