همسات ساخنة .. ومضات هادئة
المسيحيّون الشرقيون مضطهدون ظلماً في أوطانهم الأصلية
لويس إقليمس
أحداث سوريا الأخيرة ضدّ الأقليات الدينية والعرقية وآخرها ما تعرّضت له كنيسة «مار ألياس» في الدويلعة بدمشق وراح ضحيتها ما لا يقلّ عن 25 مواطنًا سوريًا من طائفة الروم الأرثوذكس أثناء إقامة صلاة القدّاس، تمامًا كما حصل في جريمة كنيسة سيدة النجاة في 31 تشرين أول 2010، تُعيدُ إلى ذاكرة العالم تواصلَ الاضطهاد الممنهج من بعض ذئاب العصر المفترسة ضدّ أتباع مسالمين من الديانة المسيحية ولاسيّما في منطقتنا الشرق- أوسطية أكثر من غيرها من بلدان العالم. كأننا اليوم أمام مشهدٍ سورياليّ مخيف ومرعب يتجدّد بين فترة وأخرى هنا وهناك ولا يلقى غير التعاطف الظاهر والأسف الخجول إزاء مَن فسّرَ وروّجَ لقوانين شرعية متخلفة وضعيفة السند بمنهجية ضرورة التخلّص من أتباع أيّ معتقدٍ يختلف عن شرع الناسخ والمنسوخ في الحكم على الغير من البشر المختلفين دينيًا ومذهبيًا وعرقيًا وحتى مناطقيًا. حتى وصل الأمر بنفرٍ مؤمنٍ بظلامية مثل هذا المنهج الزائغ عن طريق الحق والعدل والحكمة والرحمة كأنّه «يظنُّ بتقديمه قربانًا للإله الذي يعبده» حين يفتكُ أو يقضي على مَن يسمّيهم بالكفّار، وهم في حقيقة الخلق من عباد الله الذين نصحَ بهم القرآن ورسول الإسلام نفسُه حين أوصى بهم وبقساوستهم وأديرتهم خيرًا من دون شروط جزائية خلقية. وإزاء حقيقة ما يحصل بين فترة وأخرى من تجاوزات ممنهجة ومشحونة بالكراهية والحقد ضدّ المسيحيين من أطرافٍ متشدّدة هنا وهناك، لا ينبغي أن تمرّ الجريمة البشعة الأخيرة التي شهدتها سوريا قبل أيام على عهد الحكومة الإسلامية الجديدة التي تديرها حكومة زعيم «تحرير الشام» السابق المحسوب على تنظيم «داعش»، ورئيس الدولة الحالي «أحمد الشرع»، أو الأطراف المنشقة عنها حديثًا من دون عقاب أو معالجة سياسية وأخلاقية ومجتمعية. من هنا على المجتمع الدولي الذي تسرّعَ بإخراج هذا التنظيم من قوقعة الإرهاب وصفًا سابقًا وصدّقَ بأقواله لا بأفعاله موقعيًا وحقيقةً، أن يراجع مواقفَه ويضغطَ في اتجاه إصلاح الأحوال وفرض ما ينبغي إصلاحُ الخلل في إدارته وفكره وسلوكياته غير المقبولة، مع علمنا بنوايا الغرب الماكر والمنافق مسبقًا في قتل القتيل والسير في جنازته بلا خجل ولا ضمير.
إن مسألة غياب المحاسبة الظرفية بسبب عدم الاستقرار القائم في أرض جارتنا الغربية العربية السورية لغاية الساعة من تجاوزات عديدة منذ سقوط النظام الدكتاتوري السابق الذي جثم على صدور الشعب السورس لأكثر من ستة عقود، دعاني لإعادة الكتابة في موضوعة أحوال المسيحيين عامةً في منطقتنا الشرق- أوسطية. فما حصل من تغييرات جذرية في شاهدة الحكم في هذا البلد المعروف برقيّه وتاريخه المسيحي الزاخر قبل دخول الإسلام إليه، ولاسيّما منذ تاريخ تحرّره في 8 كانون أول 2024 من الحكم الدكتاتوري الجائر الذي لم يكن مختلفًا عن حالة العراق، يُنذر بعواقب وخيمة فيما إذا عجزت حكومة الشرع «الإسلامية» عن تأمين الاستقرار والحماية لجميع طوائف وأديان وكيانات شعب هذا البلد العريق المعروف برقيّه واستنارته وانفتاحه التاريخي وتسامحه المجتمعي. وكاد لا يجاريه في هذه السمة البارزة سوى شعب لبنان ومجتمعاته المتنوعة قبل أن تتغلغلَ إليه أيادي التدمير الدخيلة. ولا غرابة في ذلك، فالبَلَدان ارتبطا بوحدة جغرافية وسياسية ضمن قبّة «بلاد الشام». وهنا، لستُ أقلّلُ من عراقة الشعب العراقي وأصالة مسيحيّيه وحبهم لوطنهم، رغم ارتباطهم وانصهارهم الشعبي والمجتمعي والديني مع دول الجوار بطريقة أو بأخرى.
معادلة متغيرة
غير أنّ المعادلة تتغيّر بعض الشيء حينما نتحدث عن سوريا، البلد الذي عرفَ نمطَ حياة منفتحة ومريحة، واشتهرَ بثقافة حبّه للحياة منذ نشأته أكثر من غيره من شعوب المنطقة. وبه عُرف أيضًا أتباعُ المسيح لأول مرة بالمسيحيين انطلاقًا من مدينة أنطاكيا التاريخية الأصيلة. كما أنَّ الكراسي الكنسية الرسولية منذ بدء المسيحية حملت تسمية «أنطاكية» ولقب «الكرسي الأنطاكي»، فخرًا وتباهيًا حينما كانت المسيحية في بداياتها ولاحقًا في أوجها. وظلت كذلك إلى حين تاريخ هذا اليوم، حيث حافظت خمسة كراسي لكنائس رسولية مختلفة لحمل هذا اللقب. وهذا من مدعاة ضرورة استقرار هذا البلد وعودة التعايش السلمي بين مختلف طوائفه ومكوّناته، لا في إثارة العنف وأشكال الترهيب والوعيد من منطلق الاختلاف في الدّين والمعتقد وسعيًا وراء جنّة وهمية ما بعد الحياة تُعدّ ملاذًا ومكافأةً لكلّ مَن يجرؤُ على الفتك الحيواني والهمجيّ ببشرٍ تسمّوا مسيحيين (نصارى) اتبعوا أكثر الأديان تسامحًا ومحبة ورحمةً وتقاسموا مرّ الحياة وحلوَها طيلة قرونٍ من الزمن، بل كانوا من أفضل المواطنين أمانةً وأرقاهم انتماءً وحبًا للوطن والأرض. من هنا وفي ضوء هذه الحقائق، لا يمكن تصوّر سوريا من دون مواطنيها الأصليين (السريان) من المسيحيين في مواقع وأديرة وكنائس وبلدات تواجدهم التاريخية في دمشق وحلب وحمص وحماة والنبك والحسكة والقامشلي وطرطوس وأدلب واللاذقية وصيدنايا ومعلولا ومعرّة النعمان وما سواها برائحتها المسيحية المتميزة، ولا نسيان العشرات بل المئات من الأحياء التراثية الشهيرة بكنائسها التاريخية ومطاعمها الطيبة المذاق ومقاهيها الجميلة ونواديها المنفتحة وحاناتها الشاملة مثل السليمانية والعزيزية وباب توما والمنشية وحي الأرمن وأخرى غيرها من التي أُتيحت لي زيارتُها شخصيًا قبل سنوات عندما كانت تنعم بعدُ بشيءٍ من الاستقرار والأمان قبل نشوز حاكمها السابق وأزلامه وفساد حكمها الوطني وتحوّله إلى دكتاتورٍ وطاغية لقتل مواطنيه والدوس على رؤوسهم. وهذا طبعُ حكّامنا في المنطقة عندما يطغون ظلمًا ويزدادُ فسادُهم وتفوح رائحة جيفتهم بسبب تغوّلهم وفقدان بوصلتهم الوطنية والإنسانية والأخلاقية.
ممّا لا شكَّ فيه، لا يمكن تناسي أو تجاهل أحوال المسيحيين عامة منذ قدوم الإسلام كدينٍ جديد في المنطقة وما حمله من أفكار ضيقة المنهج في الفقه والتفسير والفرض على الغير المختلف في ظروف زمكانية بعد اشتداد بأس معظم الخلفاء والولاة والسلاطين على مرّ العصور، تعزيزًا لمواقعهم السلطوية ومجاراةً لقدرات أتباعهم البشرية بالوسائل القهرية التي أتى بها معظمهم، ما جعل أتباع الأقليات الدينية والعرقية في زاوية حرجة يئنّون من مشاكل وأزمات واضطهادات على مرّ السنين. وهذا ممّا حمل شرائح كبيرة من المجتمعات المسيحية آنذاك لترك دينهم سواءً بالإغراء أو التهديد أو حفاظًا على أرواحهم وحياة أسرهم وعشائرهم. فما كان من هذا كلّه إلاّ قلبُ الموازين الديمغرافية والدينية، ما أدّى إلى تناقص أعدادهم في أوطانهم الأصلية. ومازلنا في ذات الدوّامة طوال حقبٍ صعبةٍ نرزح تحت ذات الأسباب، مضافًا لها أدواتٍ جديدة في التهجير والقمع الناعم والتجاهل المفرط في حفظ الحقوق وصيانة الأعراض وإدامة أسباب الحياة في أبسط صورها. وآخرها ما تولاّه تنظيما «القاعدة» والدولة الإسلامية «داعش» في بلدان المنطقة من أعمال قمع وقتل واستهداف وتهديد وتهجير لأقليات دينية وعرقية بسبب الاختلاف في الدين والعقيدة والعرق، سواءً كان ذلك بدعمٍ وتمويل وإيحاء من الغرب «المسيحي» نفسه وعملائه أو بسكوته وصمته عمّا جرى ويجري من أعمال عنف وقتل وتهديد واستهداف ممنهج. فما يحصل هذه الأيام في كلٍّ من سوريا على أيدي عصابات سنّية متشدّدة ومتطرفة لحدّ الغلوّ.
اهل البلاد
وفي مصر مؤخرًا ضدّ المسيحيين الأقباط أهل البلاد الأصلاء أمام مرأى ومسمع حكّام البلدين والرأي العام الدولي يندى له جبين الإنسانية. وهذا ما يدعو زعامات الغرب وعلى رأسهم أميركا صاحبة الصوت العالي في المنابر الدولية لاتخاذ كلّ الاجراءات المتيسرة لوضع حدود لهذه التجاوزات المنكرة ومحاسبة فاعليها والأيادي المغرَّر بها حرصًا على أرواح البشر الأبرياء وصيانةً لحقوق المواطنة وتحقيقًا لمبادئ العدل والمساواة وفقًا لشرعة حقوق الإنسان التي يتغنّون بها جزافًا ونفاقًا، وأيضًا وفقًا للجدارة والكفاءة.
من هنا، فإنَّ أية مساعي دبلوماسية أو حتى التفكير بشراكة دولية قائمة على احترام المواثيق الدولية ومنها حماية الأقليات أو المكوّنات الهشّة الضعيفة في حضورها الإداري كما هي عليه الحال في سوريا والعراق ومصر ولبنان والسودان على سبيل المثال لا الحصر، يمكن لها أن تفكّك الكثير من الألغاز التي تكتنف أية إدارة لا تعير في موازينها حقوق هذه المكوّنات عندما تضعها أمام مسؤولياتها الوطنية والأخلاقية، إذا ما صُممت وأُنجزت بشكل استراتيجي وعقلانيّ خارجًا عن حسابات المصالح القومية والفئوية والشخصية الضيقة.
كما يترتب على أيّ شكلٍ من أشكال الاعتراف الدوليّ الرسمي بمنظومات حكم فقدت بوصلتها الدولية الوطنية والمجتمعية أن يرافق شكل هذا الاعتراف إلزامٌ دوليٌ وأخلاقيٌّ كي يكون أداة فعّالة في وضع الحواجز والأسس والشروط المطلوبة في السلوك الدبلوماسيّ وفي آليات مرنة تجيز المساءلة والتحذير والمحاسبة لغاية توفير الإطار المطلوب والفعّال في أدوات الضغط والنفوذ والتأثير. وبما أنّ الولايات المتحدة الأمريكية تعدّ نفسَها أقوى دولة مؤثرة في مصائر باقي دول العالم بطريقة أو بأخرى، فهي مطالبة اخلاقيًا ودوليًا أكثر من غيرها بفرض شروطٍ فاعلة وملزمة على الحكومات غير المستقرّة والمتضعضعة التي شرّعت لنفسها الحكم تحت أشكال الطائفية والتبعية من أجل ضمان حماية أكبر لحقوق الأقليات في ممارسة الحريات الدينيّة وترسيخ الضمانات الدستوريّة التي تكفل جميع هذه الحقوق.
ولنا في هذه الإشكاليات ما حصل في العقود الأخيرة في منطقتنا الشرق أوسطية.
ولعلَّ سوريا والعراق ولبنان ومصر من أكثر بلدان المنطقة ظلمًا فيما يخصّ هذه الحقوق المنقوصة المغتصبة والمهملة عمدًا أم تماهيًا مع المصالح القومية الضيقة العليا للدول الكبرى المؤثرة التي تحكم العالم.