الباحث الإجتماعي محمد إسماعيل السراي: نسبة كبيرة من المجرمين من أسر متماسكة
بغداد - فرح تركي العامري
قبل البدء في الحوار ، لابد من نبذة تعريفية عن ضيفنا ( الباحث محمد اسماعيل السراي: كاتب وباحث اجتماعي في وزارة العدل. مختص في البحث في مجال الظاهرة الاجرامية و الشخصية العراقية ولديه اهتمامات في في مجال الحضارة البشرية. لديه ثلاثة بحوث منجزة في مجال الجريمة ومجتمع السجناء ، ودراسة واحدة عن الظاهرة السجنية قدمت كورقة بحث ولديه مسودة كتاب عن الشخصية العراقية لم يطبع بعد وكذلك كتاب عن تاريخ الإنسان والحضارة البشرية مسودة لم تطبع بعد.. مع عشرات المقالات المنشورة في الصحف الألكترونية والورقية ولديه موقع فرعي في الحوار المتمدن، وأغلب مقالاته تبحث في الفكر الاجتماعي والثقافة العامة. لديه مشروع مؤجل للبحث في التراث العربي، لكنه الآن متفرغ اكثر للبحث في الظاهرة الاجرامية وأفكاره التي يود البحث فيها- ماخلا المجتمع السجني والشخصية العراقية فهي في صدارة الاهتمام- تدور حول فهم الحضارة الانسانية والخير والشر لذلك بحث وقرأ بشكل مكثف في تاريخ الإنسان القديم، علي أجد نوراً يلقي بشعاعه على ظلمة وعتمة الإنسان المعاصر وفيما يلي نص الحوار
الحوار:
□ استاذ محمد، امتلك العراق نهضة فكرية، ثقافية، مجتمعية في خمسينات القرن الماضي، هذه المجالات كانت مدعومة بالاخلاق الرفيعة والفطرة السليمة، هل من الممكن ان نمتلك مستقبلا كهذا الجيل ام لا؟
- في الحقيقة أعتقد أن مفهوم الثقافة مفهوم سيال. فقد يعني الحضارة أو التحضر وقد يعني مجموع العادات والتقاليد والقيم وقد يعني الوعي. وأعتقد المقصود من السؤال هو التهذيب والسلوك الحضاري للمجتمع في حقبة معينة وتحديداً بحقبة الخمسينات من القرن الماضي، أي حقبة المَلكِية. في الواقع ان الإجابة عن هذا السؤال باختصار ستكون اجحافاً بحقه وبحق الثقافة. وايضاً اظن أن الإجابة عنه لن تكون إجابة علمية بقدر ماهي رأي أدبي وشخصي... عموماً، فان المجتمع العراقي قبل حقبة المَلَكِية، أي منذ الحقبة العثمانية ونزولاً، كان يُنظر اليه كقوم أو مجموعات اقوام. وأما في حقبة الملكية فقد كان ينظر إلى المجتمع كطوائف وعشائر. وأما بعد هذه الحقبة، أي حقبة الجمهورية او العسكر والتي عسكرت المجتمع، فقد باتت تنظر إلى الناس كجماهير. أما بعد عام 2003 اي بعد دخولنا حقبة الديمقراطية فان الأمر أصبح أكثر تعقيداً، وربما عومل المجتمع كجماهير وكطوائف وكمجاميع ناخبين أو مجاميع أصوات. وفي كل تلك الحقب تشظت الهوية العراقية الوطنية أكثر فأكثر ولم تعد لها ملامح مميزة كمجتمع واحد.
واقع مجتمعي
واما التهذيب السلوكي والاخلاق الرفيعة والسمو والاتكيت، فاعتقد الإجابة تكون (كلا) أي أننا لن نستطع أن نمتلك هذا الجيل الذي اشرتِ إليه في ظل معطيات الواقع المجتمعي المعاصر ، لن نمتلكه على الأقل اليوم وربما في الغد القريب، لكن في المستقبل البعيد لا أعلم..
□ كيف يتطور الدافع الإجرامي في سلوك الانسان، اذا تم استثمار انسانيته في بيئة سليمة، او انعدامها؟
- هنالك عدة نظريات لتفسير السلوك الاجرامي عند الإنسان. عموما بعض المدارس كالمدارس التكوينية الكلاسيكية والحديثة، فبعض الباحثين في الجريمة كما الإيطالي لومبروزو عد الفرد المجرم مجرما بالفطرة أو الميلاد، ولـكن هذه النظرية نالت النقد الكثير. بعضهم ارجع الجريمة الى خلل في وظائف الغدد الصماء كرواد المدرسة التكوينية الحديثة مثل دي توليو ومندي وايضا من ناحية اخرى هنالك نظريات ارجعت الجريمة لأسباب اجتماعية كالمدرسة الأميركية ومنها نظرية سذرلاند الذي عدَ الرفقة السيئة او رفقة المجرمين تدفع الفرد الذي يتفاعل معهم الى الاندفاع لسلوك الجريمة ونظريته المخالطة الفارقة معروفة في هذا الشان. وهنالك المدرسة الجغرافية التي اعتبرت البيئة الطبيعية والمناخ له أثر في الجريمة وهنالك المدرسة الاقتصادية التي مثلها ماركس وانجلز مثلا التي اعتبرت النظام الراسمالي بسبب خلقه لعالم طبقي لا تكافؤ اقتصادي فيه هو من خلق الجريمة. اذن هنالك عدة مدارس ونظريات تفسر الجريمة حسب وجهة نظرها وآليات بحثها ومنهجها..
«نعم ممكن ان تكون البيئة الاجتماعية ذات اثر في خلق الدافع الاجرامي لكن ليس دائما». فكثير من الأسر الفقيرة لم تنتج مجرمين وايضا اسر مفككة لم تنتج مجرمين. ليس دائما العامل الخارجي يخلق الجريمة، اعتقد أنه يجب ان يتوفر الاستعداد الشخصي للمجرم ثم تأتي بعد ذلك الدوافع الخارجية اي الاقتصادية والاجتماعية وغيرها. اليوم انا اشتغل على دراسة للبحث عن اسباب الجريمة وقد ظهر لي كثير من افراد العينة منحدرين من بيئة اجتماعية متماسكة ومع ذلك اقترفوا الجريمة!!
□ هل الدين ظاهرة اجتماعية ؟
- نعم.. اعتقد هذا كثيرا.. انه ظاهرة اجتماعية. لا نملك دليلا على متى ظهر الدين لأول مرة عند الإنسان. لكن ماهو مؤشر اريكيولوجيا ان الإنسان قبل 70 الف سنة دفن موتاه وهذا الأمر اعتبره المختصون دليلا على وعي ديني أو حداثة سلوكية.. ثم قبل 35 الى 40 الف سنة وجد المختصون هذه الرسمات المبهرة ودمغات أكف اليد في الكهوف فاعتبروا ذلك ديانة سحرية( الشامانية) ويعتقد الكثير أن الشامانية كانت أول الديانات البشرية. اعتقد ان الدين ظهر كحاجة بشرية للإطمئنان النفسي. ربما كان الخوف من ظواهر الطبيعة المجهولة للانسان القديم هي من دفعته لاحقا لان يقدس ظواهر الطبيعة. لكن بصورة ما سيكون الدين كمنظومة اجتماعية مع ظهور الحضارة البشرية اي بعد ان استقر الإنسان في القرى الزراعية الأولى، وهنا كان لابد من تنظيم الجماعة فكان الدين احد وسائل الضبط الاجتماعي، ولكن هذا سيأتي في مرحلة لاحقة جدا، فبداية الدين هي طقوس ومعتقدات، والمعتقد هو الاسطورة التي فسرت مجاهيل الكون والحياة. لكن في مرحلة لاحقة من تطور المجتمعات البشرية ستحتاج لوضع المحظورات والممنوعات( التابو) وان كان غرضها اولا هو المحافظة على المقدس من تدنيس الإنسان وهو ما يبطل السحر الديني لكن لاحقا ستكون المحظورات كعامل ضبط لسلوك الفرد.
□ لديك بحث انجزته في الآونة الاخيرة بعنوان « أسباب ودوافع السلوك الجنسي المنحرف»، ما هي الآثار الخطيرة لهذا السلوك في مجتمعنا ؟
- طبعاً آثار ذلك الفعل الجرمي كثيرة جداً.. وضَعِي في بالك اني بحثت في السلوك الجنسي المنحرف اي الاعتداء او الاغتصاب الجنسي بين الذكور ولم أبحث في المثلية الجنسية. فأكيد آثار الاغتصاب كبيرة جداً بما ينعكس على المجني عليه من آثار نفسية وخيمة جراء تعرضه للاعتداء الجنسي، وخصوصاً نحن مجتمع محافظ وما سيناله المجني عليه وأسرته من وصم اجتماعي يلاحقهم مدى الحياة. أما عن الجانب الاجتماعي فان آثار ذلك الفعل تعمل على خلخلة المنظومة الاجتماعية القيمية مع انتشار هذه الظاهرة، وللعلم ليس كل الحالات يبلغ عنها فكما تعرفون ان هذه القضية حساسة فبعض الافراد لايبلغون عنها خوفا من الوصم او العار لذلك تدخل فيما يعرفه المختصون في علم الاجرام بالرقم الاسود، اي الجرائم المخفية غير المبلغ عنها. وايضا لم ابحث في الاعتداءات الجنسية بين الإناث لصعوبة وحساسية الموضوع وندرة العينة. اما عن المثلية الجنسية فلم استطع البحث عنها في المؤسسة السجنية كون المثلية غير مجرمة، اي انه فعل بالتراضي بين الطرفين اللذين واقعا الجنس مع بعضهما، والقانون العراقي لا يعاقب على الجنس بالتراضي.
□ هل بالامكان ان نعزي سبب السلوك الإجرامي الى الحاجة المادية او العوز، أم أن الأمر يتعلق بالنفس ومدى إستعدادها اكثر من كونه مرتبطا بحاجات مادية؟
- هنالك عدة نظريات فسرت السلوك الإجرامي كما اسلفنا. ومنها نظريات ارجعت الجريمة الى العامل الاقتصادي والفقر. لكن... كم من فرد او أسرة فقيرة اليوم وهي بعوز شديد لم يقترف افرادها الجريمة والعكس ان افرادا كثيرين ينتمون لطبقة مرفهة ارتكبوا جرائم تتعلق بالمال . اليوم حسب العينة التي أدرسها في بحث لي تبين أن اغلب الافراد الذين اقترفوا جريمة السرقة يكون وضعهم الاقتصادي متوسطا وليس ضعيفا ! اذن نعتقد ان العامل الاقتصادي مؤثر في الجريمة ولكن ليس حتميا بل هو أحد الاسباب المساعدة. وليس شرطا ان يكون العوز دافعا لها بل ربما طمع الشخص او رغباته ومتطلباته تدفعه لذلك. اما الإستعداد للجريمة. نعم اعتقد ان هنالك استعدادا شخصيا للفرد ان يسلك الجريمة ثم تاتي العوامل الإجتماعية الأخرى كعوامل مساعدة.
محاولة متواضعة
□ يعد د. علي الوردي أهم من حلل الشخصية العراقية، هل تؤيد أن المجتمع العراقي الآن، مر بتغييرات كثيرة، وأصبحت أفكاره ورؤاه مختلفة عن المجتمع العراقي الجديد ما بعد 2003 ؟
- نعم صحيح، شخصياً اؤمن بهذا الأمر جدا.. وقد اشتغلت أنا على محاولة متواضعة لفهم الشخصية العراقية، وايضاً انطلقت من افكار العلامة الوردي، لكن بعد إكمال مسودة الكتاب تببن لي اني رأيت الشخصية العراقية كثيرا بعيون الوردي، وان كانت ما تزال أراؤه صحيحة في سمات كثيرة للشخصية العراقية، لكن فعلا اليوم تغير المجتمع كثيرا ولم يعد المجتمع هو نفسه أيام الوردي او حتى قبل عشرة أعوام. انا قلت مرة اننا نحتاج لوردي جديد يبحث لنا مجتمعا طرأت عليه تغيرات كبيرة، خصوصا بعد عام 2003 وما طرأ على مجتمعنا من إنفتاح كبير على الثقافة العالمية. لكن هذا لا يعني ان الوردي لم يعد صالحاً للفهم.
_ الاستاذ السراي، نشكرك على هذه الأجوبة المهمة والقيمة، شكرا لإستجابتك للحوار وعلى سعة صدرك ؟
- شكرا جزيلا لتشريفي بهذا الحوار القيم معكم.. وممتن جدا لهذه المساحة التي اتاحها لي الحوار مع حضرتك.. كان حواراً رائعاً بحق وكانت محاورة واسئلة قيمة جدا.