مؤسّسة الفكر العربيّ.. عبد الحسين شعبان والطريق إلى خزانة العقول
هنري العويط
لن نَستعرض في كلمتنا التكريميّة هذه إنجازات د. عبد الحسين شعبان، ليس بداعي كثرتها التي لا يتّسع المجال هنا لتعدادها فحسب، بل بداعي تعدُّد الميادين الفكريّة التي خاضَ فيها وألَّف، علاوةً على مُشاركاته في ندواتٍ ومؤتمراتٍ ولقاءاتٍ شتّى حول ما لا يُحصى من موضوعاتٍ فكريّةٍ وثقافيّةٍ وسياسيّةٍ وقانونيّةٍ ودينيّةٍ وأدبيّةٍ في الدول العربيّة وفي مختلف أرجاء العالَم، شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً.
على الرّغم من نشاطه الواسع في عالَم السياسة والقانون والاجتماع والفكر والأدب والفلسفة والأديان، لم يبخل علينا د. شعبان بوقته كصديقٍ فائق التميُّز لـ «مؤسّسة الفكر العربيّ»، نَستشيره بأمورٍ عدّة فيفيض بسَيْلِ أفكاره وآرائه ورؤاه ومُقترحاته.. نطلب منه المُشاركة بدراسةٍ أو مقالةٍ حول قضيّةٍ فكريّة معيّنة، فيُنجز لنا بحثاً قيّماً أو تقريراً لمّاحاً أو مقالةً لا بدّ أن تجِد لها صدىً واسعاً لدى قرّائنا. مشاركته معنا، كما مع غيرنا من مؤسّساتٍ فكريّة واستراتيجيّة عربيّة، مطبوعة دوماً بسِماته الشخصيّة فائقة الإيجابيّة من جهة (في طليعتها دماثة الخلق والاحترام الذي يكنّه لنفسه وللآخرين)، ومن جهة ثانية قناعاته الفكريّة، العقائديّة والقيَميّة الرّاسخة، المُتمثّلة بوطنيّته وعروبته الحضاريّة التي ما فترت يوماً. لم يَحِد د. شعبان العراقيّ الجنسيّة والعربيّ الانتماء عن هذَيْن الانتمائَيْن، لكنّ فكره وسلوكه السياسيّ والحقوقيّ والاجتماعيّ عَكَسا ترفّعه الحقيقيّ والواعي عن كلّ الانقسامات السياسيّة التي من شأنها أن تُموْقعَهُ في دائرة التعصُّب الضيّق، سواء لبلده أم للرابطة العروبيّة الجامِعة، وضمناً في دائرة العصبيّة القوميّة والإثنيّة والدّينيّة والثقافيّة؛ فكان من موقعه كمُدافعٍ عن حقوق الإنسان، دائم الانحياز ضدّ التطرُّف، باثّاً أفكاره التي تضْطلع بوظيفةِ الجَمْع بين المُتناقضات، سواء في وطنه العراق أم في سائر بلداننا العربيّة، نابذاً الاتّجاهات الإلغائيّة، المُسيئة للتواصل بين المجموعات القوميّة والإثنيّة والدّينيّة والثقافيّة المتنوّعة في زمنٍ يُراد له أن يكون “زمن صدام الحضارات والهويّات”. لذا كرَّس صاحب “دين العقل وفقه الواقع” فكره للحوار والتلاقي والتسامُح واللّاعنف بدلاً من الصِدام الذي لن يجرّ مُجتمعاتنا إلّا إلى التمزّق، وهويّاتنا إلى التفتُّت، ودولنا إلى التصدُّع والتفكُّك والانهيار.
مُنظِّر مفهوم
نادراً ما خاضَ مفكّرٌ موسوعيٌّ عربيٌّ في التنظير والتأليف معاً حول قضايا المجتمع المدنيّ، وذلك كما خاضَ وفعلَ د. عبد الحسين شعبان. كاد الرجل أن يتخصّص في هذا المفهوم “الجديد” والذي لم تتفعّل آليّاتُه عربيّاً سوى من ثلاثة عقود فقط، وقد ألَّف فيه كُتباً مهمّة وبالغة الجديّة هي: «المُجتمع المدنيّ سيرة وسيرورة”، و»المُجتمع المدنيّ.. الوجه الآخر للسياسة»، و»جامعة الدول العربيّة والمجتمع المدنيّ».يرى د. شعبان أنّ دراسة المجتمع المدنيّ لا يُمكن أن تكون بمعزلٍ عن الدولة وتطوّرِها ودستورِها وقوانينها، خصوصاً لما تمثّله من علاقةٍ جدليّة مع المُجتمع؛ فكلاهما يَرتبط بدرجة التحديث السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ؛ إذ إنّ ظهورَ الدولة ونشأتَها بالمعنى الحديث، وتضخّمَ أجهزتِها الإداريّة، وتعدُّدَ مسؤوليّاتها، وتنوُّعَ بيروقراطيّاتها، قد تركَ تأثيرَهُ على المُجتمع المدنيّ. ففي الكثير من البلدان النامية، ومنها بلداننا العربيّة، تقلَّص دَور المجتمع المدنيّ طرديّاً مع اتّساع الأجهزة الأمنيّة، ومع ازدياد مركزيّة الدولة وعسكريتاريّتها، بخاصّة في ظلّ محاولات الاحتواء أو الإغراء أو الإفساد أو توظيف مؤسّسات المجتمع المدنيّ لأغراضٍ سياسيّة أو حزبيّة أو دينيّة أو طائفيّة ضيّقة.ولا تغيب عن بالِ د. شعبان مسألةُ قراءة حساسيّة الحكومات العربيّة من بعض منظّمات المجتمع المدنيّ، انطلاقاً من الدواعي الآتية: أوّلاً، إنّ بعض هذه المنظّمات يتلقّى تمويلاً أو مساعداتٍ خارجيّة من جهاتٍ أجنبيّة، وبالتالي يمكن أن يوظَّف الأمر لمصلحة تلك الجهات وأجنداتها الخاصّة. ثانياً، إنّ بعض منظّمات المُجتمع المدنيّ هو جزء من اللّعبة السياسيّة، وهو واجهة لهذه الجماعة أو تلك، سياسيّاً أو عقائديّاً أو دينيّاً أو إتنيّاً أو طائفيّاً أو غير ذلك، وبالتالي فإنّها منظّمات غير مستقلّة. ثالثاً، إنّها مُنافس للحكومات، وتريد الوصول إلى السلطة بعد فشل الأحزاب السياسيّة. هكذا إذن، فإنّ الحكومات تخشى من حراكها الديناميّ مثلما تخشى منها بعضُ الحركات السياسيّة التي تشعر أنّها مُنافسٌ لها أو بديلٌ منها.
القيَم والواجب
من جانبٍ آخر، ينبغي ألّا يفوتنا ذكْر أنّ د. عبد الحسين شعبان هو مثقّفٌ علميّ واقعيّ استفادَ، ولا شكّ، من الفكر الماركسيّ وأصولِه الوضعيّة ليؤسِّسَ في المقابل فلسفةً أخلاقيّة ذاتيّة تؤهّله لإقامةِ علاقةٍ تبادليّة بين القيَم والواجب، لا تنفصم عراها على أرضِ الواقع العربيّ وغير العربيّ امتداداً إلى بلدان العالَم كافّة، وقطبها الأوحد والدّائم هنا هو الإنسان، والنضال لأجل دفْعِ الظلمِ عنه، وتحقيق العدالة الحقيقيّة له.. ففي النهاية «إنّ الأرضَ ليست لأحد والثمار للجميع” كما يقول جان جاك روسّو.وليس من الإسراف القول إنّ د. شعبان يُدرك، وفي الصميم، أنّ العقلَ النقديّ هو العمود الفقريّ لأيّ حياة فكروسياسيّة فاعلة ومتطوّرة حضاريّاً. وانطلاقاً من هذه المسلّمة، رأيناه يُمارِس نقداً للدوغمائيّات المُصاحِبة لكلّ إيديولوجيا كبرى، وفي طليعتها الإيديولوجيا الماركسيّة – اللّينينيّة، بخاصّة بعدما حوَّلها الرئيسُ السابق لدولة الاتّحاد السوفياتي جوزيف ستالين إلى سلطةٍ إيديولوجيّة صارمة وقاطعة، وعلى نقيض، كما يُقال، للمُثل الاشتراكيّة التي اجتُرحت منها... بِتنا حقيقةً أمام «إيديولوجيا جديدة» اسمها «الستالينيّة»، كوَّنت لها أتباعاً، ليس على مستوى الاتّحاد السوفياتي السابق فقط، وإنّما على مستوى دول العالم ككلّ. وهنا يَجمل بنا أن نورِد أنّ العقلَ النقديَّ الذي كان، ولا يزال، د. شعبان يدعو إلى إشهاره، ينبغي أن يفعل فعْلَه، ويُمارس دَورَهُ في النقد الحرّ والجريء لأيّ ظاهرة إيديولوجيّة يعتريها الغلوّ والشَّطط، وربّما لأجل ذلك، رأيناه يُمارِس النقدَ المسؤول، ليس للحزب الشيوعيّ العراقيّ الذي كان ينتمي إليه في الستّينيّات من القرن الماضي فقط، وإنّما للعديد من الأحزاب والتيّارات اليساريّة العربيّة المُتعثّرة. كما لم يوفِّر الرجلُ من نَقدِهِ القويّ نظامَ الهيْمَنَةِ الغربيّ وحماقاته التي لا تحصى. ونَخال د. شعبان يدعو كلَّ من يَستخدم آلة النقد العقليّ عندنا إلى اعتماد مناهج وأساليب عِلم اجتماع المعرفة، وهو أحد فروع عِلم الاجتماع الذي يُحاول الربطَ بين الإنتاج الفكريّ والبناء الاجتماعي.
مُستصفى القول، ولكي يظلّ متمكّناً ونافِذاً، لا بدَّ للعقلِ النقديّ العربيّ، وخصوصاً الجديد منه، من أن يُعزِّزَ، وباستمرار، سباحتَهُ في المُحيط الثقافيّ العالَميّ، ويَستمدَّ بالتالي أسئلتَهُ الجديدة من خلاصة مجالِه التداوليّ وعناصر فكرهِ النقديّ والمفهوميّ المُستقِلّ.
المسيحيّون في العالَم
اهتمّ د. عبد الحسين شعبان بأوضاع المسيحيّين العرب في الصميم، وتضامَنَ معهم في مِحنتهم الدراميّة في العراق، وكذلك في المنطقة العربيّة ككلّ. وفي هذا المجال أَصدر كتابَهُ “المسيحيّون والربيع العربيّ.. في إشكاليّات الديمقراطيّة والتنوّع الثقافيّ في العالَم العربيّ» المُتضمِّن عدداً من الأبحاث والدراسات والمقالات تحت عناوين مُثيرة وجديرة بالقراءة مثل: “الربيع العربيّ والأقليّات في الدول الإسلاميّة المُعاصِرة”، “ماذا بعد تفريغ المنطقة من المسيحيّين؟”، “سبع رسائل لاستهداف المسيحيّين”، “مسيحيّو العراق: الجزية أو المجهول”، “المسيحيّون والمواطنة وناقوس الخطر”، “إمبابة وأخواتها”، هجرة المسيحيّين: افتراضات الصراع واشتراطات الهويّة” و”المسيحيّون والبيئة الطّاردة”.
بخصوص الكِتاب، كان مؤلِّفُهُ د. شعبان قد ألقى محاضرةً في “عنكاوة”، (مدينة مسيحيّة في إقليم كردستان – العراق) جاءَ فيها أنّ ربيعَ العرب كان أقرب إلى خريف المسيحيّين في دولِ المنطقة... وقد تعرَّضَ الكثيرُ من أبناء الأقليّات إلى أعمالِ عنفٍ وتنكيلٍ واضْطهاد، بل وإنّ الفتاوى التحريضيّة انتشرتْ ضدَّهم وازداد التعصُّبُ والتطرُّفُ بحقِّهم، وطُلِبَ دفْعُ الجزيةِ من المسيحيّين سكّان البلاد الأصليّين، أو أن يغادروا إلى المجهول أو يُقتلوا لدى عدم مغادرتهم. وهكذا وصلتْ رسائل تهديد تحمل في طيّاتها مثل هذه التهديدات للكثير من المسيحيّين في البصرة والموصل، وفي بغداد وكركوك وغيرها من المُحافظات العراقيّة، الأمر الذي يُثير علامات استفهام كبيرة حول المُستقبل.
وأشار د. شعبان إلى أنّ فَهْمَهُ لمسألةِ حفْظِ المسيحيّين، وصوْنِ حقوقهم في دولِنا، هي مسؤوليّةٌ إسلاميّة بقدر ما هي مسؤوليّة مسيحيّة ودوليّة أيضاً، وخصوصاً لجهة ضرورة اعتماد مبادئ الدولة العصريّة التي تقوم على المساواة والمواطنة والحريّة والمُشارَكة والعدالة الاجتماعيّة، أي عدم التمييز واحترام الحقوق الإنسانيّة، بخاصّة أنّ الإسلام يَعترف بالمسيحيّة كرسالةٍ سماويّة ويؤمن بالإنجيل ككتابٍ مقدَّس، وذلك المُشترَك الإنسانيّ – الإيمانيّ الذي يَجمــــع بين الديانتَيْن. وأنّ الاعترافَ بالخصوصيّة والإقرارَ بالتنوُّع والتعدّديّة وحقّ الاختلاف والتمايُز، سيكون طريقاً سالكاً لاستعادةِ الهويّة الوطنيّة العراقيّة الجامِعة التي لا يُمكن فرضُها بالإكراه أو إلغاء الآخر.
ولا يَغربنّ عن البال أنّ د. عبد الحسين شعبان لا يحبّ، بل ينزعج جدّاً من توصيف المسيحيّين العرب بـ”الأقليّة، لأنّهم في الأساس أصل المنطقة وعنوانها الثقافيّ والحضاريّ بشهادة العديد من المُستشرِقين الثقاة من أمثال الألمانيّ جورج غراف، فضلاً عن المرجعّيّات الفكريّة والتاريخيّة الكبيرة في بلادنا كالأب لويس شيخو ود. فيليب حتّي.. كلّهم أجمعوا على الدور المشرِّف لنصارى العرب في تعزيز الحضارة العربيّة وإغنائها.
أكثر من ذلك، كنّا قد قرأنا في كِتاب “دَور المسيحيّين العرب في الحضارة العربيّة – الإسلاميّة” للباحث سمير عبده (دار حسن ملص للنشر – دمشق 2005) عن أنّه حين قامتِ الدعوةُ الإسلاميّة، كانت المسيحيّةُ في أوج ازدهارها في سوريا الطبيعيّة والعراق وبعض الجزيرة العربيّة.... وكانت النصرانيّة أيضاً قد وَجدتْ سبيلاً لها إلى قبائل عربيّة عدّة في نجد والحجاز وقرب الحِيرة وبرّ الشام، نذكر منها قبائل: بكر وتغلب وكندة. وبعد ظهور الإسلام في العام 622 ميلاديّة في الجزيرة العربيّة، ما لبث أن انتشر في المناطق المجاورة؛ وامتزج المُسلمون بالنصارى، وحصلتْ من جرّاء ذلك تفاعلاتٌ حضاريّة وسياسيّة واجتماعيّة متمادية بإيجابيّاتها.
محمّد مهدي الجواهري
وموسوعيّة د. عبد الحسين شعبان قادته إلى تأليف كتابٍ حميميّ جدّاً وتاريخيّ جدّاً.. جدّاً عن شاعر العراق والعرب الأكبر: محمّد مهدي الجواهري. حملَ الكتابُ عنوان: “الجواهري.. جَدَلُ الشعر والحياة”، حرص خلاله المؤلِّفُ على إنصاف الشاعر من زمنِه وناسه، ووضَعَ الحقائق واضحةً أمام القارىء بموضوعيّةٍ تزيل كثيراً من الشوائب والمُلابسات التي حاول حسّادُ الشاعر وأعداؤه أن يُلحِقوها به؛ فقد ظُلِم الجواهري كثيراً من قِبَلِ الساسة والحُكّام وأصابه الحيف والغبن من شتّى العهود والحكومات في العراق بسبب مواقفه الجريئة المشرِّفة، ووقوفه إلى جانب شعبه في كلّ معاركه النضاليّة. وظُلم أيضاً من قِبَلِ المُقرّبين إليه من فئات سياسيّة أفنى عُمرَه معها، وحُسِب عليها، وكان يُفترض بها أن تَقِفَ إلى جانبه في الأزمات، فوقفتْ إلى جانب أعدائه.
ومن حُسن حظّ الشاعر والمؤلِّف معاً، أنّ الكتابَ كان قد صدرَ في العام 1996 أي في حياة مُبدِعنا الكبير محمّد مهدي الجواهري، ما مكَّنه بالتالي من أن يطّلعَ عليه قَبل رحيله عن هذا العالَم في تمّوز/ يوليو من العام 1997.
ومَن يقرأ كِتاب د. عبد الحسين شعبان عن الجواهري، ويَعرف في الوقت نفسه الشاعر الجواهري بالمعنى الشخصيّ والمباشر للكلمة، يَلحظ على الفور كم أنّ المؤلِّف يَنبض بشخصيّة أبي فرات نُطقاً ومُنطلقاً، جسداً وروحاً، واقعاً ومزاجاً. ولا غرو فالمؤلِّف قَبل كلّ شيء، وبعد كلّ شيء، ربيبُ بيئةِ الشاعر، وهو منها في الجوهر ومقام الأثر والتأثير.. والكتابة من هذا النَّوع تظلّ تشي بيسر الطريق إلى خزانةِ العقول والقلوب.
المؤسس صاحب السمو الملكي خالد الفيصل
تأسست في العام 2000
المدير العام الحالي البروفيسور هنري العويط
كلمة بمناسبة تكريم د. عبد الحسين شعبان في “يوم الوفاء” من قبل دار الدكتورة سعاد الصباح