منبر العزاء وصرخة الشعب
ردات موكب عزاء العباسية في مواجهة الفساد
كربلاء - طه خضير الربيعي
في قلب الوجع العراقي حيث تمتزج الروح الحسينية بإرادة التغيير ينبثق الشعر الشعبي بوصفه أقوى وسائل التعبير عن الضمير الجمعي، وأوضحها في فضح الفساد ورفع صوت المقهورين. إن الرفض الشعبي للظلم والتهميش لا يظهر فقط في ساحات التظاهر والخطاب السياسي بل يتموضع أيضًا ببلاغة جارحة في القصائد والردات الحسينية التي تشعل المجالس بعاطفة الغضب والنشيد.
وفي الردات الحسينية لموكب العباسية برزت ملحمة شعرية تؤكد أن الشعب العراقي (رغم القهر) ما زال يحمل راية الوعي ويصرخ بلغته الخاصة في وجه من خان الأمانة واستباح الوطن.
استُهلّت الردات بنداء مباشر إلى الشعب العراقي يحفّزه على كسر جدار الصمت واسترجاع الحقوق المسلوبة. وجاء التساؤل الاستنكاري: (وليمته تبقه ساكت يا شعبي يا مغوار) ليُسائل الوعي ويستفزّ روح المقاومة. إن استخدام لفظ (مغوار) يمنح الشعب صفة البطولة الجمعية، ويستدعي من الماضي الرمزي صفات الثبات والفداء.
خطاب تعبوي
هنا تتحول القصيدة من شكلها الشعري إلى خطاب تعبوي يتوسّل الغضب ليصحو من حوله على الحقيقة كما في كثير من الشعر الشعبي العراقي، يظلّ الإمام الحسين (عليه السلام) رمزًا أخلاقيًا ومحرّكًا ثورويًا لا يُخفت صوته. وفي ردّات الموكب لم يُستدعَ بوصفه شخصية تاريخية فحسب، بل كمرجعية دائمة للثبات على الحق، كما في العبارة القاطعة: (عالحق ما يعله عالي). فالحسين هنا هو المجاز الأعلى لكل مظلوم وذكراه بوصلة لا تتخلّى عن المظلومين.وتتجسد هذه المعاني في قول الشاعر: (يحسين انت التحمينه من كل طاغي يعادينه). فالعقيدة الحسينية تتحوّل إلى درع رمزي يحمي الكرامة، ويمنح الثورة معناها المقدس.
ردّات العباسية لم تتوقف عند فضح الفساد الداخلي، بل طرقت أبواب السيادة الوطنية المهددة. يقول الشاعر: (لا تحرك داري بنارك خلينه انظل اخوان)، وهي عبارة تحمل في طيّاتها نزعة وطنية ناضجة، ترفض الإملاءات الخارجية باسم الشراكة أو الإخوة. كما يُذكر في (لا تدخل بأوضاعي)، أن حدود الوطن لا تُخترق حتى بالكلام.
ويزداد التحدي في ردّات تتهم بوضوح أصوات الطغيان الخارجية، وتربطها بمخططات (الصهيونية) والمشروع الهادف لإخضاع الشعوب في مقطع شديد الوضوح، يصف الشاعر من يفرّط بحقوق الشعب بالخائن ولا يمنحه أي مساحة للتبرير: (خاين لمن يتخاذل ما عنده كل تبرير). إنه حكم أخلاقي صارم يفتح باب النقد اللاذع والواعي على الساسة، وينتهي بالتهديد الرمزي: (نقطع إيد اللي يتماده على الوطن).
فالكلمات هنا تتحول إلى حدٍّ شعري يشبه السيف، يلوّح بالمحاسبة ويرفض التصالح مع الغادرين وفي لفتة موجعة يعقد الشاعر مقارنة بين المثال السياسي المنشود، وبين ما نعيشه من واقع مرير:
(باعتنا وعينك عينك باكتنا)
صورة جارحة تكشف فداحة الانهيار القيمي في العمل السياسي، وتهدم أي تبرير لتكرار الثقة بمن أثبتوا فشلهم. وتأتي النداءات الأخيرة مغلّفة بروح الثورة الحسينية:
(يا شعب حسين الوارث... كلا للسرقوا قوت الناس)
لتُدين الأحزاب التي لم تحمل همّ المواطن، بل كانت أداة للتزوير والتخدير.
بيان شعبي
إن ما احتوته ردات عزاء العباسية لم يكن مجرد تسلية شعرية أو خطاب وجداني، بل كان بيانًا شعبيًا مضمّخًا بالوعي منبثقًا من إرث الثورة الحسينية، ومتطلّعًا إلى إصلاح الحال وصحوة الضمير.
لقد أثبتت ردات عزاء العباسية أن الشعر الشعبي الحسيني ما زال يُمسك بزمام الفعل، يصوغ الكلمة طعنة في وجه الفساد، ويكتب الحكاية من قلب الجرح. فلا تزال هذه الردات تصدح بالكرامة، وتحثّ على النهوض، وتذكّر أن من ينهض مع الحسين لا يعرف السكون. وبين صدى هذه الردات ونبض الجموع، لا يزال السؤال مفتوحًا:
هل يسمع من به منصب
أنين من به وطن؟