الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
قراءة في قصيدة لا حرية تحت نصب الحرية


قراءة في قصيدة لا حرية تحت نصب الحرية

محمد علي محيي الدين

 

حين يُطلق الشاعر عبارته الأولى، يكون كمن يدق ناقوسًا عتيقًا في ذاكرة أمةٍ لم تهدأ، وكأن الكلمات ليست حروفًا مسطورة، بل حسرات متراكمة في صدور تتنفس القهر جيلاً بعد جيل. ومن بين تلك العبارات التي التقطت أنفاس العراقيين المكلومين، تصدح عبارة «أفنيتَ عمرك»، لا كمجرد استهلالٍ لقصيدة، بل كصرخةٍ قادمة من قاع التاريخ، تختزل زمنًا من الخيبات والانكسارات.

في قصيدته الشهيرة «لا حرية تحت نصب الحرية», يفتتح الشاعر العراقي الراحل موفّق محمد بنَفَسٍ شعبيّ جريءٍ، مستثمرًا الشكل البنائي للموال العراقي، وإن خرج عليه في بعض المواضع. لم يكن خروجه نشازًا أو عجزًا عن الإتقان، بل كان تمرُّدًا واعيًا على القوالب، يُعيد من خلاله تشكيل الحزن بطريقة تُشبه الجراح حين تتكلم بلغتها الخاصة.

في ذلك المقطع، تتجاور الأشطر الثلاثة الأولى بجناسٍ لفظيٍ موحّد، بينما تختار الثلاث التالية جناسًا مغايرًا، وصولاً إلى القفل – أو «الرباط» – الذي يختزل مضمون المقطع بأسره. يقول موفق محمد:

    أفنيت عمرك لم تقم من وجعةٍ

    إلا وطحت بأخرى سرمهر وانگس!

    وما تخلصت من بوريٍ لُطِمت بهِ

    إلا تمنيته فالجاي چان انگس!

    وما تحررت من حزبٍ قُتِلت بهِ

    إلا وجاك حزبٌ سرسري وانگس!

    وتظل تقارن عمر ما بين ذاكه وذا

    والصافي الك تصطلي بنيران شرة واذى

    لو گتله فدوة الشعب محروگ گلك وذا

    ما طول أنا بالحكم حيل وعسى بنگس!

هذا المقطع الذي تناقلته الصحف والمنصات والفضائيات، وطالما طلبه الجمهور في المهرجانات الشعرية، لم يكن مجرد توظيف لغوي، بل كان جرحًا ناطقًا، وعينًا تحدق في المرآة العراقية منذ عقود. عبارة «أفنيت عمرك» وحدها، كانت كفيلة ببعث شجنٍ دفينٍ في نفوس مستمعيها، وكأنهم وجدوا أنفسهم في مأتمٍ جماعيٍّ لعمرٍ ضاع سُدًى.

ومع أن العبارة بدت كأنها ولدت من رحم معاناة عراقية خالصة، إلا أن جذورها تمتد عميقًا في تربة الشعر العربي، من عصوره الأولى إلى يومنا هذا، وكأنها لازمة الوجع الإنساني كلما ضاق صدر المرء بسنيّ العمر التي تمضي خلف السراب.

ها هو أبو العتاهية يرفع عقيرته باللوم:

أفنيتَ عُمرَكَ باغتِرارِك     ومُناكَ فيهِ وانتِظارِك

...

أفنيتَ عُمرَكَ إدبارًا وإقبالاً    تبغي البَنينَ وتبغي الأهلَ والمالا

ويُردف أبو نواس بحسرة العاصي:

أفنيتَ عُمرَكَ والذنوبُ تَزيدُ    والكاتبُ المحصي عليك شهيدُ

أما دعبل الخزاعي، فيرى العمر سؤالًا مؤجلًا ليوم الحساب:

إذا سألوني في يوم الحساب    بما أفنيتَ عمرك في الشباب

وبلغة مختلفة، ولكن بإحساسٍ لا يقل وجعًا، يقول ابن الفارض:

أفنيتُ عمري في هواك ضحية     والله أدرى بالنفوس وأعلمُ

ويُنسَب للإمام علي بن أبي طالب (ع) قوله:

أفنيتُ عمري في هواك تكرُّمًا     كيف الدواءُ وقد أُصيبَ المَقتلُ

وما بين هذا وذاك، نجد جميل بثينة، العباس بن الأحنف، بشار بن برد، عمر الخيام، وأحمد شوقي، كلهم عبّروا عن هذا الشعور العميق بالفوات، والندم، والارتحال في دروب لم تُفضِ إلى المأمول. فالإنسان، في كل زمان، يحمل هذا السؤال الملتهب في داخله: فيما أفنيت عمري؟

أليس هذا ما يصرخ به أحمد مطر أيضًا وهو يقول:

أفنيتُ العمر بتثقيفي

وصرفت الحبر بتأليفي

أو ما يردده الشاعر محمد سالم عبادة في مرارة إدراك متأخر:

قفا إنني أفنيتُ عمري واقفًا 

 أفكّر فيما ينبغي أن أُقارفا

وهكذا تتكرر المفردة – بل تتكاثر – في شعر إبراهيم طوقان، صالح المالكي، عبد الله الهلالي، وأحمد الغنام، إلى أن تتحول إلى مرآة إنسانية صافية ترى العمر حين يُهدر، لا بوصفه زمنًا فقط، بل طاقةً مهدورة، وأحلامًا لم تُصغ بعد.

إن موفّق محمد، في قصيدته هذه، لم يكن يكتب عن نفسه وحده، بل كان يكتب عن وطن. وطنٍ أفنى أعمار أبنائه في وجعٍ طويل، في ثوراتٍ مجهضة، وأحزابٍ تتناسل من رماد الكارثة، فلا تمنح غير الوهم والانكسار.

وما تميز به الشاعر – فوق لغته الساخطة وجرأته المعهودة – هو طريقته الخاصة في المزاوجة بين الشعبي والفصيح، بحيث جاءت قصيدته جسدًا حيًّا تتحرك فيه الروح العراقية بكل ما تحمله من تناقضات: الفصحى المصقولة بجانب المفردة الشعبية العفوية، العمود بجانب التفعيلة، والنقد السياسي بجانب البوح الإنساني.وهكذا، حين يُردد العراقي – سواء في قلب بغداد، أو على أرصفة المنافي – عبارة «أفنيتَ عمرك»، فإنه لا يستدعي قصيدة فحسب، بل يستحضر تاريخًا من الخيبات، وصوتًا شعريًا صادقًا لم يُهادن، وظل حتى النهاية يصرخ: لا حرية تحت نصب الحرية.


مشاهدات 88
الكاتب محمد علي محيي الدين
أضيف 2025/06/28 - 12:12 AM
آخر تحديث 2025/06/28 - 7:00 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 170 الشهر 17197 الكلي 11151851
الوقت الآن
السبت 2025/6/28 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير