ال “الفرس المجوس أم حراس الإسلام؟ !!
تفكيك عقدة الكراهية بين العرب وإيران
شوقي كريم حسن
⸻
لماذا تصرّ بعض الخطابات العربية، السياسية والدينية، على وصف إيران بالفرس المجوس؟ ولماذا يُصرّ على استدعاء هوية ما قبل الإسلام – الزرادشتية – في توصيف دولةٍ تُعدّ اليوم واحدة من أكبر الدول الإسلامية من حيث عدد السكان، وحاضنة لأكبر تيار شيعي في العالم؟
هل المسألة عقائدية خالصة؟ أم أنها غلافٌ أيديولوجيّ لكراهيةٍ أعمق، تاريخية، سياسية، وربما نفسية، ترتبط بصراع الهوية والمكانة في العالم الإسلامي؟
مصطلح “الفرس المجوس” ليس مجرد وصف عابر. إنه تعبير أيديولوجي يحاول أن يُقصي إيران من الانتماء الإسلامي عبر الإيحاء بأنها لم تدخل الإسلام عن قناعة، بل احتفظت في جوفها بعقيدة النار والثنوية، وغيّرت وجهها فقط لتنفذ مشروعها “الصفوي الفارسي” كما يُزعم.لكن الحقيقة مختلفة. إيران، أو بلاد فارس، بعد دخولها الإسلام، أصبحت مركز إشعاع حضاري وثقافي، وبرز منها كبار المفسرين، المحدثين، الفلاسفة، الشعراء، وحتى الفقهاء الذين أسسوا علوم الدين الإسلامي. أليس من المفارقة أن يوصف أولئك الذين حفظوا تراث الإسلام بأنهم “مجوس”؟
صحيح أن الفُرس يشكّلون الغالبية في إيران، لكن الدولة نفسها تضم طيفًا واسعًا من القوميات: الأذريين، العرب، الكرد، البلوش، التركمان، اللور، وغيرهم. الحديث عن “الفرس المجوس” وكأن إيران كتلة متجانسة هو اختزال عنصري وقومي يطمس التنوع الإيراني المعقّد.والأهم أن الإسلام في إيران ليس مجرد غطاء، بل هو بنية روحية وثقافية عميقة، تشكل جوهر النظام السياسي والاجتماعي والديني. إذ كيف يمكن اتهام بلد استند دستوره إلى ولاية الفقيه – المشتقة من الفقه الجعفري – بأنه يحمل راية المجوسية؟
يربط البعض العداء العربي لإيران بمعركة القادسية، حين هُزمت الإمبراطورية الساسانية ودخل الإسلام فارس. لكن هذا التفسير مفرط في التبسيط. فالعلاقة لم تكن عدائية على الدوام؛ بل كانت شراكة حضارية امتدت قرونًا، وازدهرت خلالها الترجمة، الفلسفة، الفقه، والعلم. كثير من الخلفاء العباسيين اعتمدوا على الفرس في إدارة الدولة، وبرزت منهم أسماء غيّرت وجه التاريخ الإسلامي.
الكراهية اليوم، إذًا، لا يمكن ردّها فقط إلى الماضي؛ إنها نتاج صراعات حديثة: الثورة الإيرانية 1979، الحرب العراقية الإيرانية، النفوذ الإيراني في العراق وسوريا ولبنان، والخلاف المذهبي السنّي الشيعي.إذا كان الإسلام، بنصه الصريح، “يجبّ ما قبله”، فلماذا يصر البعض على استخدام التراث الديني ما قبل الإسلام كأداة تشهير؟ ولماذا لا توصف فرنسا أو الهند، مثلًا، بماضيها الوثني، رغم أنهما غير مسلمتين؟ هل يُراد فعلاً الحديث عن العقيدة، أم أن المجوسية هنا مجرد استعارة شيطانية لإقصاء الآخر وتبرير العداء السياسي؟
قد لا يروق للبعض الاعتراف بذلك، لكن إيران – برغم تحفظاتنا السياسية على سياساتها – احتفظت برؤية روحانية، عقائدية، وفلسفية للإسلام، وظلّت متجذرة في الثقافة الدينية. ففي حين تتراجع بعض الدول العربية نحو تغريبٍ كامل أو تسليعٍ للدين، حافظت إيران على التديّن الشعبي، وعلى حضور العلماء، وعلى دور المؤسسة الدينية في الحياة العامة.
حين نصف إيران بـ”الفرس المجوس”، نحن لا نصفها فقط، بل نختزل تاريخًا معقدًا من التبادل، والصراع، والتحالف، والخذلان. نُسقط على الآخر صورة مخاوفنا.التاريخ الإسلامي لا يروى من زاوية واحدة. وإيران ليست مجوسية، كما أن العرب ليسوا دائمًا حماة الرسالة. بين السياسة والدين، ضاعت الحقيقة، وسقطت الأخوّة.
فلنسأل بصراحة: من يخشى الإسلام الحقيقي اليوم؟ الفرس… أم الذين تاجروا بعروبته ومذهبه وثوراته؟
لم يكن توصيف إيران بـ”الفرس المجوس” مجرد وصف عفوي ينفلت من أفواه الغاضبين، بل هو مشروع لغوي أُريد له أن يصبح سلاحًا، يستنفر الذاكرة الجريحة للعرب، ويستنطق ثأرًا دفينًا يعود إلى القادسية، وربما قبلها. لكن من الذي أشعل هذا الثأر بعد أن خمد لأربعة عشر قرنًا؟ ومن الذي أعاد الزرادشتية إلى واجهة الصراع، وكأن الإسلام لم يمر من هناك، ولم يخض الفرس في بحوره حتى باتوا من أعمدة علومه وعباقرته؟ أي بصر أعمى يتجاهل أن الفقه الجعفري، والتفسير، وعلم الكلام، والفلسفة الإسلامية، حمل أعمدته رجال من بلاد فارس، حفظوا النص، وجادلوه، ووسعوه، وسكبوا فيه روح العقل والذوق؟
التوصيف عنصري، يُراد به خلق مسافة روحية، كي يبدو العدو بعيدًا، غريبًا، غير قابل للفهم أو التقارب. وإلا كيف نُفسر هذا الإصرار على نزع صفة الإسلام عن أمة مسلمة؟ وكيف نفهم هذا التغاضي عن واقع إيران المتعدد الأعراق، المتنوع في نسيجه البشري، والذي يحوي عربًا وبلوشًا وكردًا وأتراكًا، لا تقل انتماءاتهم الإسلامية عن نظرائهم في الضفة الغربية من الخليج؟ حين يُختزل كل هذا في صفة “الفرس المجوس”، فنحن لسنا أمام تحليل سياسي، بل أمام تسطيح وجودي، يُراد له أن يبرر الكراهية.
ولا يمكن أن نغفل أن جزءًا من هذا الخطاب وُلد بعد الثورة الإسلامية في 1979، حين أعلنت طهران أن الدين لا يُهادن الطغيان، وأن الإسلام يمكن أن يكون مشروعًا تحرريًا لا تابعًا. خاف كثيرون من الفكرة أكثر من الواقع، لأن الفكرة تهدد هياكل المصالح. فاستُدعيت القادسية من تحت التراب، ولبست عمامة جديدة، لا لتوحيد الصفوف، بل لشقّها على أساس المذهب والدم.الحرب العراقية الإيرانية كانت وقودًا لهذا الانقسام، ومن حينها أصبحت إيران تُحاكم في الضمير العربي العام لا على أفعالها فحسب، بل على ما يُظن أنه نواياها. وعلى الرغم من أن السياسة الإيرانية، كأي سياسة، تُخطئ وتراوغ وتناور، فإن الرد لم يكن سياسيًا، بل دينيًا طاعنًا في الأصل، ينزع عنها صفة الإسلام ذاته، وكأن المجوسية تنام في قلب كل إيراني، مهما تشهّد.لكن ماذا عن الجهة الأخرى؟ ماذا عن الدول التي تتحالف مع أعداء الأمة بلا خجل، وتفتح أبوابها لصفقات التطبيع، وتخنق شعوبها بالحديد والنار؟ لماذا لا نسمع من يصف هؤلاء بما قبل الإسلام؟ أليست هذه ازدواجية أخلاقية مكشوفة؟ أليس من الغريب أن تُوصف إيران بالمجوسية وهي التي تحفظ لعمائمها مكانة، وتدرّس الفقه والفلسفة، وتخوض في فكر الشهادة والمهدوية، بينما تُكرم في أماكن أخرى مهرجانات الغناء أكثر من مجالس الذكر، ويُمنح المال للسلاح أكثر مما يُمنح للعلم؟
الواقع أن وصف إيران بهذا الشكل لا يكشف حقيقتها، بل يكشف جرحًا في الوعي العربي، جرحًا يهرب من نقد الذات ليصبّ جامه على الآخر. وكأن الكراهية تعفينا من المراجعة. وكأن العدو الخارجي ضرورة نفسية لستر العجز الداخلي.الإسلام يجبّ ما قبله. ولكننا نبدو وكأننا نعيد ما قبله، نُخرج النار من الرماد، لا لنعبدها، بل لنحرق بها خصومنا. وهذه ليست روح الإسلام، بل هي بقايا صراع القبائل حين تخسر المعنى وتُغلّف أحقادها بشعارات السماء.أما إيران، فلا يمكن فهمها من خلال سطر في نشرة أخبار، ولا من خلال لافتة مذهبية. إنها بلد معقّد، فيه ما يُعاب وما يُحترم، فيه ما يُخيف وما يُلهم، لكن وصفه بـ”الفرس المجوس” ليس تحليلًا بل تحريض، ليس نقدًا بل شتيمة تسقط في أول اختبار للعقل.يبقى السؤال الأخير: أليست إيران، بكل ما فيها، أقرب في مشروعها الروحي من أنظمة هجرت حتى الشريعة، وراحت تتغنّى بالحداثة السوقية، وبالانفتاح المُعلّب؟ أليس من المفارقة أن تُهاجَم إيران باسم الإسلام، وهي التي تحتكم – بكل ما يقال عن نظامها – إلى مرجعية دينية، بينما يفرّط آخرون بالإسلام تحت شعار الاعتدال؟
ربما علينا الكفّ عن رمي الحجارة من داخل بيت الزجاج. فليست إيران مجوسية، كما أن العرب ليسوا أنبياء. والأمة التي تريد نهضة، تبدأ أولاً من صدقها مع ذاتها، لا من صراخها على الآخر.!!