العراق مثل المنتخب، وطنٌ يخسرُ كل مبارياته
رائد فؤاد العبودي
خسر منتخب العراق رسميًا فرصة التأهل إلى نهائيات كأس العالم. والسؤال المؤلم: مَن منّا مصدومٌ حقًا؟
الخسارة لم تكن مفاجئة، وتوديع كأس العالم لم يكن مدوّيًا، ولا حتى صادمًا. كان الخروج بكل بساطة حدثًا متوقّعًا في سياق بلد اعتاد الإخفاق، إلى درجة أن الجمهور لم يعد يُصاب بالذهول، بل بالفتور ،فالهزائم تحوّلت إلى طقسٍ دوريّ، تعوّد عليه العراقيون كما تعوّد أهل الصحراء على الشمس والعطش الطويل.
الأهم من حدث الخسارة هو انعكاسه على الواقع، فالمنتخب لم يكن في هذه المباراة يُمثّل مجرد فريق لكرة القدم، بل كان تجسيدًا حيًّا لعراقٍ كاملٍ يتهاوى كل لحظة ، وكان ملعب جذع النخلة مسرحًا رمزيًا لحكاية هذا الوطنٍ الذي يعيش كل تفاصيل الانهيار، والمنتخب كان أحد الممثلين في هذا العرض المأساوي المستمر.
المنتخب العراقي لم يُهزم في مواجهة كوريا فحسب، بل خسر أمام تراكم طويل من الإخفاقات ،أمام سنوات من الفساد الرياضي، والصفقات المشبوهة، والتدخلات السياسية، والمحسوبيات، والولاءات الضيّقة، واستقدام لاعبين من الدرجة الرابعة في أوروبا، وآخرين يلعبون في فرق الهواة في السويد.
كل هذه الإخفاقات ،التي ترقى إلى مستوى الخيانة، هي التي جعلت الرياضة جزءًا من غنيمة الوطن، لا مشروعًا وطنيًا حقيقيًا.
الخروج المهين، (الماصِخ)، من تصفيات كأس العالم، لم يكن إلا إعلان وفاة مؤجّلة، وجاءت المباراة الأخيرة لتسحب جهاز التنفس الصناعي عن جسدٍ ميتٍ منذ زمن. لكنها لم تُعدم الديكور من حوله.
ومع كل هزيمة جديدة، تتكرر المشاهد ذاتها… إنها وجوه المسؤولين المتجهّمة، وخطابات الأسف، ووعود المراجعة، وبيانات الشفقة التي لا تخلو من الكذب السياسي. بينما الحقيقة الصلبة هي أن لا أحد حزين فعلًا ..
فكيف يحزن من شارك في الجريمة؟ كيف يبكي مسؤول رياضي على منتخبٍ كان هو نفسه جزءًا من خنقه وسقوطه؟ كيف يبكي مدرّب حراس أو مسؤول منتخب وهم أعلم بمن استُقدم من أوروبا من لاعبين، وكيف، وما هو مستواهم؟!
مسؤولو الرياضة مثل مسؤولي السياسة والحكم؛ حزنهم لا يشبه حزن المواطن العادي. فحزن هؤلاء يشبه تمامًا حزن المقاول الفاسد، الذي يتباكى على (مجسّر) انهار بعد أشهر من افتتاحه، وهو يعلم في قرارة نفسه أن الخراب نتاج يديه، وأنه قبض حصته من المشروع المنهوب.
أما السياسيون، فلا يختلفون عنهم كثيرًا. الحزن عندهم أيضًا فعلٌ وظيفي، مرتبط بضرورات المرحلة الإعلامية، لا بمسؤولية أخلاقية. البرلمان، والكتل، والمسؤولون جميعهم جزءٌ من منظومةٍ تنتج الفشل، ثم تبكي عليه، وتدّعي الصدمة من نتائج كانت هي أصل أسبابها وأساس أدواتها. لقد تدرّب المسؤولون الرياضيون مثلهم مثل السياسيين على هذا النوع من الحزن المؤقت، تمامًا كما يتقنون الفرح المصطنع في مواسم الانتخابات وإعادة تدوير الوجوه الفاشلة ذاتها.
لا فرق بين ما يجري في الرياضة وما يجري في الدولة. فالعراق كدولة، خرج هو الآخر من كل ساحات المنافسة الحضارية، وخسر كل مبارياته الإقليمية والدولية حتى مع أسهل وأفشل الخصوم. لقد خرج العراق من مضمار السيادة، ومن ميدان العدالة، ومن سباق التنمية، ومن مشروع التعليم والنهضة الاجتماعية. ما تبقّى منه هو هيكلٌ هشّ، يحمل اسم “وطن”، لكنه مجرّد وعاءٍ لفساد منقطع النظير.
منتخب العراق الذي هُزم على أرضه وبين جمهوره على يد العملاق الكوري، هو منتخب ينتمي لبلادٍ تعيش بلا اقتصادٍ منتج، بلا صناعة، بلا زراعة، بلا استثمار في الإنسان. بلاد تقف على عكّاز النفط، ولا تملك من حاضرها إلا أنابيب تصدير، ولا من مستقبلها إلا قلق السوق العالمية. رقبة الوطن موضوعة على سكين البترول، تُذبح متى ما قررت شركات النفط الكبرى أو أسواق الطاقة أن تغيّر اتجاهاتها.
المنتخب العراقي الذي خرج اليوم مهزومًا، هو نتاج وطنٍ يعيش فيه المواطن على أوهام مشاريع استهلاكية تبتلع خير البلاد ، من مولات تجارية، ومطاعم تستورد حتى الملح، وجامعات أهلية غير معترف بها خارج الحدود، تخرّج أفواجًا لا تملك من أدوات المستقبل سوى أوراق لا تصلح إلا للحائط، حيث أصبح التعليم سلعة، والثقافة مظهرًا، والانتماء شعارًا بلا مضمون.
وبألمٍ شديد نسأل: هل يمكن لوطنٍ بهذه الصورة أن يُنتج منتخبًا ناجحًا؟
هل يمكن لمنظومة تستبعد الكفاءات وتستقدم أصحاب الوساطات والرشاوى وتحتفي بالجهلة والمتملّقين، أن تصنع فريقًا يعرف طعم النصر؟
إنّ ما يحدث في المنتخب ليس شذوذًا عن القاعدة، بل هو القاعدة ذاتها. هو التطبيق الرياضي لمنطق الدولة؛ حيث تُقصى المواهب، وتُستدعى الأسماء المقرّبة، ويُمنح القرار لمن لا يملك إلا الولاء، لا الكفاءة.
وختامًا، إذا كانت البلاد تُدار بعقلية الغنيمة، فمن الطبيعي أن يُدار المنتخب بمنطق المقاولات . وإذا كان الوطن كله بلا بوصلة، فلا عجب أن يهيم المنتخب بلا خطة. وإذا كان كل مسؤول ينهب لنفسه ولعائلته، ثم ينتظر لحظة الانهيار ليغادر، فمن الذي سيقاتل من أجل العَلم العراقي؟ ومن سينزف من حنجرته النشيد الوطني؟ إذا كانوا لا يفهمون ألوان العلم، ولا يصدّقون كلمات النشيد!
خسارة المنتخب، في نهاية المطاف، ليست مجرد هزيمة كروية. إنها عرض سريريّ لوضع أعمق بكثير، وهي كشفٌ لدولة لا تعرف إلى أين تمضي، ولمجتمع فقد ثقته بالمستقبل، ولنظام لا يملك مشروعًا وطنيًا حقيقيًا.
لقد خسرنا المباراة، نعم، وخرجنا من كأس العالم، فعلاً.
لكن ما خسرناه حقًا، هو الإحساس بأن هذا الوطن ما زال قادرًا على أن ينتصر في حاضره وفي مستقبله.
لقد خسرنا الأمل…
وما بعد الأمل، لا تُحتسب الهزائم.