مقاهي بغداد بنكهة الماضي وروح الحاضر
نوري جاسم
في أزقة بغداد القديمة، حيث تختلط رائحة الهيل برماد النرجيلة، ويمتزج صوت فيروز مع همسات الروّاد، تقف المقاهي البغدادية شاهدةً على ذاكرة مدينة لا تنام، وهي ليست مجرد أماكن لشرب الشاي أو تبادل الأحاديث، بل هي مؤسسات اجتماعية وثقافية وروحية، حفرت مكانتها في وجدان العراقيين على مرّ العصور، ولمقاهي بغداد
جذور ضاربة في التاريخ، حيث ظهرت المقاهي في بغداد منذ العهد العثماني، واتخذت مكانًا مهمًا في الحياة اليومية، وكان مقهى “الشابندر” في شارع المتنبي، على سبيل المثال، ملتقى المثقفين والكتّاب والشعراء منذ أوائل القرن العشرين، وما زال قائمًا رغم ما مرّت به المدينة من ويلات الحروب والتقلبات، ولم تكن المقاهي يومًا حكرًا على فئة معينة، بل كانت وما زالت مكانًا يتساوى فيه الغني والفقير، العالم والأمي، السياسي والمواطن العادي، يجلسون على كراسٍ من الخيزران، يحتسون الشاي المهيل أو الحامض في استراحة قصيرة من صخب الحياة، وتُروى فيها الحكايات، وتُدار فيها النقاشات الساخنة، ويُحكى فيها عن الأمس واليوم والغد،
وبرزت في بغداد مقاهٍ ذات طابع ثقافي مميز، مثل مقهى “الزهاوي” الذي كان يحجّ إليه الشعراء والفنانون، ومقهى “البرلمان” الذي اشتهر بنقاشاته السياسية الساخنة، هذه المقاهي لم تكن فقط للترفيه، بل مراكز للإبداع والتغيير، حيث صيغت فيها أفكارٌ، وتأسست فيها حركات، ومع دخول العصر الرقمي، تغيّر شكل المقهى، لكن جوهره بقي حيًا، حيث ظهرت المقاهي الحديثة المزودة بالإنترنت، والمزينة بلمسات فنية عصرية، والتي يقصدها الشباب للقراءة أو العمل أو حتى لممارسة الألعاب الإلكترونية، إلا أن الروح البغدادية ما زالت حاضرة، في طقوس الشاي والحامض، وفي دعوة “تفضل استريح”، وفي الحنين المتبادل بين المكان ومرتاديه، ورغم هذا الزخم، تواجه المقاهي البغدادية تحديات جمّة: ارتفاع الإيجارات، التغيرات الاجتماعية، والتوترات الأمنية. ومع ذلك، تبقى صامدة، لأنها ليست مجرد جدران وطاولات، بل جزء من الذاكرة الجمعية، ومقاهي بغداد مرآة للمدينة نفسها تجمع بين أصالة التاريخ وتنوع الحاضر، وبين الحزن والفرح، وبين السياسة والفن. هي قلب نابض بالحياة، حيث يجد البغدادي في فنجان شايه عزاءً عن همومه، وفي جلسة الأنس متّسعًا لأمل جديد، وصلى الله على سيدنا محمد الوصف والوحي والرسالة والحكمة وعلى آله وصحبه وسلم تسليما ...