الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
مرثيّة ليلى العطار: الفن يستبصر مصير صاحبه

بواسطة azzaman

مرثيّة ليلى العطارالفن يستبصر مصير صاحبه

لندن - أمل الجبوري

ليلى العطار، امرأة جمعت بين فتنة الجمال وصفاء الروح.

 يوم رحلت، لم تَفْقِد بغدادُ فنانة مبدعة فحسب، بل أُغلِق بابٌ من أبواب الجمال على مصراعيه. لقد جاء موتها، بصاروخ أمريكي غادر، شاهداً على أبشع تمثّلات الإرهاب الحقيقي: اغتيال الثقافة والروح والخلق، قبل وبعد غزو العراق عام 2003 .

لم تكن ليلى مجرد فنانة موهوبة، بل كانت كيانًا متجذرًا في المكان، أمًّا روحيّة لكل زاوية غمرتها ريشتها. لم ترسم كما يرسم الآخرون، بل كانت تنفخ الحياة في أرجاء القماش، وتبذر دهشة الجمال في صمت الأركان. الفن عندها لم يكن مهنة ولا بضاعة، بل ضرورة وجودية، وفعل تخلّق مقدّس. وكانت تؤمن، بعمق المتصوفة، أن مَن أحبّه الله رسم قَدَره. وقد تجلّت هذه العقيدة في حياتها وعملها، على نحو مدهشٍ ومفجعٍ في آنٍ معًا.

التأمل في أعمال ليلى العطار هو انخراطٌ في حوارٍ صامتٍ مع الغيب. كل لوحة من لوحاتها كانت نافذةً للباحث العارف، المتلمّس لحقيقةٍ خفيّة. أما من نظر إليها بعين العابر، أو أعرض عن التمعّن واحدًا تلو الآخر، فقد فاته أن يستبصر مآلها المكتوب بين ضربات الفرشاة.

إحدى أولى لوحاتها المعروضة، والتي عُرضت في بغداد عام 1971، كانت تصوّر امرأةً غارقةً في هاويةٍ سوداء، تحيط بها ملامح الدمار والدم والظلال الثقيلة. وبعد أكثر من عشرين عامًا، تحقق ذلك التنبؤ البصري العجيب: قُتلت ليلى العطار بصاروخ أمريكيمن الدولة ذاتها التي ادّعت  بعد ذلك أنها جاءت محررة، لكنها كانت في حقيقتها مدمّرة للفن والحضارة.

اختفى جسدها في حفرة عميقة أحدثها الانفجار، لتتحقق الحفرة الرمزية التي رسمتها قبل عقود، حفرة الظلام والدمار، وكأنها كانت تشهد منذ البداية على المصير الآتي بريشتها.

كانت ليلى ابنة دجلة والفرات، وكان في عينيها العمق الغامض للنهرين. حتى بعد موتها، لا تزال كلماتها تتردد من أعماق الهاوية: وإن سقطت، فثمة ما يبقى مني. أثرٌ، علامة، ونهرٌ لا تقدر عليه أي قوة مهما عظمت. وهنا يكمن خلودها الحقيقي، لا في الجسد، بل في الأثر الجمالي، في ذاكرة الوطن وروحه.

جمالها، الذي لم تَدنّسه صرعات التجميل ولا عبث الفيلر والبوتوكس، كان مرآةً لصنعة إلهية متقنة. وفي ملامحها كما في أعمالها، تجلّت رسالة: إن الإرهاب الحقيقي لا يكمن فقط في بندقية أو قنبلة، بل في المنهج المنظم لمحو الجمال، وسحق المعنى، وتخريب الروح. فالإرهاب هو مصانع السلاح، وهو الصواريخ التي تنسف الإلهام، لا فقط الجماعات المقنّعة التي رُكّبت كأكاذيب في المسرح الجيوسياسي. إن إرث ليلى العطار يمثل حالة استثنائية في تاريخ الفن، حيث سبق العمل المصير، فاستبصر الفنان ما لم يُعِدّ له الآخرون قلوبهم ولا عقولهم. في كثير من التقاليد الصوفية والميتافيزيقية، ليس الإبداع فعل تعبير فني فحسب، بل هو كشف واستلام لمعرفة تتجاوز الزمن.

من خلال اللون، والتكوين، والظل، رأت ليلى ما سيأتي، ورسمته بوعيٍ روحيّ لم يكن مرئياً بعد. لم تكن رؤيتها فنية فقط، بل كانت رؤيا، وكان فنّها نداءً من وراء الحُجب.

إن الفن حين يولد من الإلهام العميق والصدق الوجودي، يعلو على المفاهيم الجمالية المجردة، ويصير قوة تستدعي الحقيقة من مكمن الغيب. ضربة فرشاتها لم تكن مجازًا عن ظلمةٍ ما، بل استقبالاً لحضورها، وإنذارًا بها. أن تتطابق نهايتها مع ما رسمته يدها قبل عقود، ليس محض مصادفة، بل شهادة على صفاءٍ قدسيّ تمشي به بعض الأرواح في هذا العالم، وكأنها تقودها يدٌ خفية، ترسم بها ما يجب أن يُعرَف بل أن يُعاش.


مشاهدات 114
أضيف 2025/05/17 - 2:39 PM
آخر تحديث 2025/05/20 - 10:48 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 1377 الشهر 26192 الكلي 11020196
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/5/20 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير