قراءة في رواية هذيان محموم
سمية جمعة
ما بين الفلسفة و الوجود ،نعيش تفاصيل رواية قصيرة جدا،و لكنها بتكثيفها نغوص في تفاصيل مجتمعية.
بداية ،أول ما يطالعنا العنوان (هذيان محموم)
تعريف الهذيان : هو تغير كبير في القدرات العقلية ،و ينتج عنه تشوش في التفكير و نقص الوعي بالبيئة المحيطة ،عرض يصاب به المريض و تبدو عليه تغيرات واضحة في السلوك.
من خلال شخصية ( حامد) تلك الشخصية المحورية يقدم لنا الكاتب أنموذجا رائعا للرواية القصيرة جدا،تلك التجربة التي تتناول عملا سرديا مكثفا ،بتسليط الضوء على قضايا فلسفية و اجتماعية،تتميز هذه الرواية بالتركيز على شخصية واحدة من خلالها يتحرك العمل الروائي الذي يتسم بالتصاقه بقضايا ذات بيئة اجتماعية ،و تقاليد أرهقت المجتمع.
حامد الذي يموت و يعيش الصراع الداخلي و الوجودي بين أن يكون و بين ما هو كائن، ينسحب حامد من الحياة ليشهد طرق العزاء التي كان ينتقدها دائما،زوجته المتشحة بالسواد، المقرئ الذي يستأجرونه للقراءة،الأسئلة التي تجوب في عقل حامد ،عندما يسمع حديث أبطاله في رواياته،( و أنا كيف تتركني في مثل هذا الوضع دون ان تحدد مصيري) هذه الأسئلة في عقل كل كاتب عندما يترك الشخصيات دون نهاية،موت المؤلف و الإجابات الحائرة .
نقد الكاتب لمراسم العزاء و قراءة الفاتحة التي تكلف أهل الميت الكثير( هو في قرارة نفسه يرفضها)( صراحة أنا لا أريد أن تقام على روحي الفاتحة و تولم الولائم ،يكفيني أن تزرع على قبري شجرة مزهرة) و كأن الكاتب على لسان البطل يتمنى أن تبقى ذكراه بكتبه على قيد الحياة.
القضية الأهم التي سلط عليها الضوء ، النفاق الاجتماعي ( الموائد التي تفرش لأصحاب الكروش الكبيرة ، و فضالة الطعام للفقراء)
اللافتات التي تكتب أثناء التشييع،الأديب حامد ،دون ذكر لمؤلفاته، و كأن لسان حاله يقول: ( أيها الجهلة مؤلفاتي هي عصارة فكري و عقلي) مشكلة الأدباء في زمن العولمة و السباق اللاهث في شبكات التواصل الاجتماعي، مشكلة الأديب الذي لا يقدر في حياته.
( من دون كل كائنات الأرض فلا أحد يستطيع ان يخلق روايتي او قصيدتي في حين يملك كل مخلوق حي أو حيوان أن ينجب أولادا) العمل الأدبي هو استمرارية للأديب بعد الموت في مجتمع يقدر قيمة الادب.
رحلة حامد ما بعد الموت
و عودته ، السؤال عندما يبتعد الناس و ينزلونه القبر، تبدأ رحلة ناكر و نكير ، يعود ثانية إلى رحم الطبيعة ،ليتجسد في جسم حيوان أو نبات جديد.
ربما هنا الكاتب يشير إلى فكرة التقمص، و عودة الروح لتعيش في روح كائن آخر،هي استمراريته في الحياة.
نجد بأن الكاتب في هذه الرواية القصيرة جدا،قد تعرض لقضايا كثيرة بسرد مكثف، اللغة فيه كانت مناسبة للموضوع،و كأنه أراد أن يصب كل أفكاره في بوتقة واحدة ، ربما الكاتب يشعر بأن القراءة في هذا الزمن تحتاج إلى تكثيف مبسط كي لا نشعر بالملل.الرواية القصيرة جدا،تفتح لنا أبوابا للتأويل و المجاز، تتركنا في دوامة الأسئلة الكثيرة التي تشد القارئ للبحث عنها.
الثيمات المتعددة في هذه الرواية ،و القضايا العالقة التي ما تزال في طريق البحث عنها،هي أيقونات تحتاج منا كقراء التريث في قراءتها و إيجاد الحلول المناسبة. التطرق السريع لتلك القضايا التي جعلنا الكاتب في هذيان حامد جزءا منها.
هو ليس هذيانا، هو عودة لتقييم و إعادة النظر في ظواهر مجتمعية بيئية تجعلنا أسرى لتلك العادات و التقاليد هي صرخة محمومة ، يتمنى الكاتب لو أن صوتا يسمعها.