الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
المشروع الغائب في عراق ما بعد عصر المحاصصة

بواسطة azzaman

المشروع الغائب في عراق ما بعد عصر المحاصصة

أسامة أبو شعير

 

خبير اقتصادي ومستشار دولي في السياسات التعليمية والتنمية – المملكة المتحدة

مَن نحن؟ حين يتحوّل السؤال إلى مشروع دولة

في أحد مقالاته اللافتة، طرح الدكتور محمد حسن المالكي سؤالًا جوهريًا: “من نحن؟”. وقد بدا هذا السؤال حينها تأمليًا، فلسفيًا، وربما متجاوزًا لهموم السياسة اليومية. لكنه في الحقيقة مفتاح لفهم كل أزمة نعيشها، من فوضى الخطاب العام إلى ارتباك القرار، ومن هشاشة الانتماء إلى غياب المشروع.

هذا ليس سؤالًا ثقافيًا معلقًا، بل سؤال دولة وكيان، سؤال العقد الاجتماعي، وسؤال المصير المشترك. فمن دون “نحن” واضحة، لا يمكن بناء سياسة مستقرة، ولا اقتصاد منتج، ولا تعليم فاعل، ولا إعلام مسؤول. بل تبقى الدولة مجرّد جهاز توزيع للثروة والولاءات، والمواطن مجرّد تابع يبحث عن موقعه في خارطة الانتماءات الفرعية.

بعد 2003: هوية مُشتتة ودولة بلا سردية

في العراق بعد 2003، لم يُصَغ مشروع وطني جامع يتجاوز خطوط الطائفة والمنطقة. بُني النظام على المحاصصة، لا على المواطنة، وعلى التمثيل الفئوي، لا على التمكين المتساوي. فصار الانتماء إلى “نحن” عراقية واسعة أمرًا معلقًا، لا مدعومًا بنص دستوري فاعل، ولا بمناهج تعليمية تعزز الشعور بالوطن، ولا بسياسات اقتصادية تخلق شعورًا بالملكية العامة.أكثر من 60% من شباب العراق يعرفون أنفسهم من خلال طوائفهم أو مجتمعاتهم المحلية قبل أن يعرفوا أنفسهم كعراقيين، بحسب استطلاع المعهد الديمقراطي الوطني (NDI) عام 2022. وفي استطلاع مؤسسة Gallup (2021)، بلغت نسبة الثقة بالحكومة العراقية 12% فقط، مقارنة بـ70% في رواندا و45% في الهند. هذا الرقم لا يكشف فقط عن أزمة انتماء، بل عن فشل سردية الدولة في أن تكون الجواب الجامع لسؤال “من نحن؟”.مقارنة دولية: من رواندا إلى ألمانيا… كيف تُبنى السرديات الوطنية؟

دول مثل رواندا، وجنوب أفريقيا، وماليزيا، وألمانيا، وحتى الهند، واجهت أزمات انقسام أشد من العراق لكنها أعادت تشكيل سردية وطنية جامعة. رواندا ألغت التصنيفات العرقية، ورفعت نسبة التعليم الثانوي من 15% إلى أكثر من 40% وفق البنك الدولي. ماليزيا وظّفت اقتصاد السوق لتقليص الفجوات العرقية، وسنغافورة بنت هويتها على الانضباط والتعليم، وألمانيا بعد النازية أعادت تعريف نفسها من خلال الاعتراف والانفتاح والعمل الجماعي.

الاقتصاد الريعي وغياب المعنى

في العراق، الاقتصاد لا يخلق انتماءً، بل يعيد إنتاج التبعية والبطالة المقنعة. أكثر من 400 ألف خريج جامعي بلا وظائف عام 2023، و70% من الموازنة تذهب للرواتب. وهذا ليس اقتصادًا منتجًا، بل نظام إعالة غير مستدام.

إن أي مشروع لبناء “نحن” عراقية لا بد أن يمر عبر تمكين اقتصادي يعزز الشعور بالملكية والانتماء الوطني، ويمنح المواطن دورًا حقيقيًا في بناء الدولة بدل أن يكون متلقيًا لفتات الريع السياسي.

المثقف العراقي بين السلطة والطائفة

الجامعات تنتج شهادات لا وعيًا، والمثقف أسير بين سندان السلطة ورحى الطائفة. أقل من 9% من الشباب العراقي يزورون المكتبات والمنتديات الثقافية سنويًا (مركز البيان، 2022)، وهو ما يعكس اتساع الفجوة بين النخب والمجتمع، وغياب مشروع ثقافي قادر على قيادة تحول وطني.

خارطة طريق عملية لعراق ما بعد المحاصصة

ما بعد المحاصصة يعني بناء دولة تستند إلى الكفاءة، والمواطنة، والتوزيع العادل للفرص. وهذا يتطلب:

سياسيًا: رموز وطنية جامعة وخطاب يوحّد لا يفرّق، كما في رواندا مع كاغامي، وجنوب أفريقيا مع مانديلا، وألمانيا بعد الحرب.

تشريعيًا: قانون مواطنة مدنية شامل يساوي بين الجميع ويكسر إرث الطائفية القانونية.

تعليميًا: إصلاح المناهج التربوية لزرع رواية وطنية جامعة تعزز التفكير النقدي والانتماء.

اقتصاديًا: اقتصاد إنتاجي–رقمي يرتكز على القطاع الخاص، يخلق الفرص بدل البطالة، ويحرر الشباب من انتظار التوظيف الحكومي.

إعلاميًا: دعم إعلام وطني جامع يواجه احتكار الروايات الطائفية ويعزز صوت المواطنة.

ثقافيًا: تمكين المثقف العراقي من استعادة موقعه كجسر بين الأجيال، عبر المنصات الرقمية والمبادرات الفكرية العابرة للحدود التقليدية.ورغم محدودية المبادرات المجتمعية في العراق، فإن خلق فضاءات حوار حقيقية تضم الشباب من مختلف الخلفيات، بعيدًا عن الخطاب النخبوي أو الطائفي، يمثل نواة لما يمكن أن يكون مشروعًا وطنيًا حيويًا لبناء سردية جامعة.

الرؤية التاريخية

في هذا السياق، يشير إبراهيم العبادي في مقاله التحليلي “العراق بعد احتلالين غربيين” (2025)، إلى أن العراق “استهلك قرنًا كاملًا من الفرص الضائعة، وأهدر سنوات من التنمية الشاملة التي كان من الممكن أن تنقله إلى مصاف الدول المستقرة بهوية وطنية راسخة”، نتيجة تخبطه بين الاستبداد، والتجاذبات الفئوية، وانعدام الرؤية المجتمعية النقدية. هذا التوصيف يعزّز ما نطرحه هنا من أن غياب مشروع “نحن” العراقية لا يُفهم فقط من زاوية اللحظة السياسية الراهنة، بل هو تراكم تاريخي لفشل الدولة والمجتمع في تحويل الهويات إلى هوية جامعة.

شروط بناء المشروع الجامع

لكن هذا المشروع لا يتحقق بدون توفر الشروط التالية:

إرادة سياسية جادة تكسر جدران المحاصصة.

قانون يحمي المواطنة ويمنع التمييز.

استقرار أمني يسمح بالحوار والانفتاح.

مجتمع مدني حيّ يمتلك أدوات الضغط والمساءلة.

من دون هذه الشروط، تبقى “نحن” فكرة مؤجلة… والوطن مشروعًا بلا أصحاب.

خاتمة: هل نريد أن نكون؟

العراق لا يحتاج إلى معجزة، بل إلى مشروع. إلى إرادة تعيد صياغة العقد الوطني من الداخل، وتُولّد هوية تستحق هذا البلد أن يحملها.أمة عمرها 7000 سنة… ألا تستحق أن تولد من جديد كما نطمح؟


مشاهدات 50
الكاتب أسامة أبو شعير
أضيف 2025/04/20 - 4:00 PM
آخر تحديث 2025/04/21 - 3:18 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 198 الشهر 21356 الكلي 10902003
الوقت الآن
الإثنين 2025/4/21 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير