من قال أني قلم حر، وهناك من يأمرني ويستعبدني في مكان ما من نفسي، ونفسي غير روحي مثلما (يستعبدني) غير( يستبعدني)، أحاول التحرر في التمرد على مناسبات الكتابة أو كتابة المناسبات، فمن يوم 8 شباط تقفز لتجد نفسك في عيد الحب، وحتى عيد الحب تجده مترافقا مع (يوم الشهيد الشيوعي).
خلف دافع الكتابة يكمن طلب خجول وفي بعض الأحيان يكون فضائحيا، أقصد البحث عن عمل، ولا يعرف كاتب أهمية ما يكتبه وقد لا يصدق ما يقوله (المختصون) عن كتابته وأيضا لا يوجد عدل في كل هذا، الكتابة فعل قصدي ضد الظلم، إذا ما كانت حرة، والجوائز والنقاد يعيدونها إلى (الحظيرة) مثلما يعيدون فرسا جامحا أو يضعون عصفورا في قفصه.
حولنا، مؤسسات تحترف الكتابة وترتزقها، وهناك كتاب خلقوا والقيود تربط موهبتهم، ولدوا في مؤسسات العبودية ويكتبون وكأنهم يقرأون النظام الداخلي لتلك المؤسسات، لكن الحرية مكلفة، ومكلفة جدا، كما أنها تحتاج إلى أصالة تهدر فرصك بالحياة الكريمة، والكرم هنا يعني الحياة وسط عائلة تحترم خروجك عن النص وركضك في البرية كحصان أعمى، يقع ويقف حتى يعود إلى العائلة، أعرج وأعمى.
بالحديث عن العائلة، أتذكر وأسترجع هذه الأيام رواية (بداية ونهاية) لنجيب محفوظ وكيف ظللت أردد في داخلي كلمة( قاتل…قاتل ) وأقصد نجيب محفوظ نفسه الذي لم أفهم أبدا دافعه بجعل ( نفيسة ) تنتحر ولم يكتف بذلك بل تمادى فأجبر أخاها ( حسنين ) على الانتحار خلفها.
كان حسنين وهو الأخ الثالث لعائلة موظف فقير الحال توفاه الله بداية القصة، أخواه، الكبير حسن المنشغل بحاله وأهوائه وحسين الموظف البسيط الذي يكد ويعمل حتى يكمل حسنين كلية الشرطة أو الحربية، لا أتذكر هذا تماما.
بعد أن يستدعي ضابط الشرطة الخافر حسنين ليبلغه بأنهم قبضوا على أختهم( نفيسة ) في بيت دعارة وكونهما عسكريين وإكراما لذلك يسلمه أخته ليرى ما يفعل معها، يخرج حسنين مطأطأ الرأس مهزوما مهانا مثقوب الروح، فتنقذه نفيسة، أخته الخاطئة بأن لا يدمر مستقبله بقتلها وأنها ستنتحر هي غسلا لعارهم، يمشيان معا، تتقدمه بخطوة، هي الفاصل بين عالمين ولما يصلان نهر النيل من فوق الجسر تلتفت له طالبة المغفرة ومن ثم تقفز إلى النيل، ينظر إليها من شاهق وقد تحولت إلى دوائر ماء تكبر لتنحسر كأي حياة ويقول لنفسه وكأنه يجيب طلبها بالمغفرة( ليرحمنا الله جميعا )، في تلك الأعوام، عقد السبعينات، كنت متعمدا عبور جسر الأحرار شتاء ومن منتصفه أتأمل النهر الجاري، دجله بلونه الغاضب وإيقاعه المتسق وأتمتم ( ليرحمنا الله جميعا ) فمن لا يستطيع الرحمة والمغفرة يعيدها لله، وهكذا يقول القاتل عن ضحيته، بعد انتحار نفيسة، يتذكرها حسنين بحياتها السريعة وكيف انحرفت وكانت تحظى بحب خاص من أبيهم مبررا تواضع جمالها مع تعلقه بها قائلا ( لخفة أنفس من الجمال)، ترتبط نفيسة بعلاقة حب بريئة من أحد أبناء الحي، لكن هذا يأخذ وطره منها ويتركها فتجد نفسها شيئا فشيئا ومن عشيق لسافل، تجد نفسها وقد امتهنت ما يشبه الدعارة من غير الاعتراف أو إدراك ذلك حتى يحصل ما يحصل، وعندما يتأمل حسنين حياته وحياة عائلته يشعر بالذنب، فكم ضحى الجميع ليكمل دراسته ويكون ما هو عليه، لكنه لم يرد المعروف وظل مستغرقا بذاته ومنصبه، يشعر بالتقصير الشديد وإن ما حصل لنفيسة ما كان ليحصل لولا إهماله وغروره وانشغاله بنفسه، يقترب حسنين من تلك النقطة على الجسر التي منها قفزت نفيسة منهية حياتها ويردد للمرة الأخيرة (ليرحمنا الله جميعا) ويلحق بأخته منتحرا.
أنجز نجيب محفوظ (بداية و نهاية) في العام 1949، وقد يكون هذا التوقيت هو السبب في تلك السوداوية والنهايات المتشائمة، فالعقد الخامس من قرن مثير يلفظ أنفاسه، أحلام السلام وبداية عقد عالمي أو نظام جديد حيث الديمقراطية سمته وقد تمت هزيمة النازية وأخواتها، لكن الصراع بين المنتصرين في الحرب بدأ من جديد، بدأ بعد ثلاثة مؤتمرات لتقسيم الغنائم والحفاظ على السلم العالمي (مؤتمرات طهران ويالطة وبوتسدام)، بدأ النزاع حول أسلاب ألمانيا نفسها حيث كان الجيش الأحمر السوفيتي أول الواصلين لتتسع دائرة الخلافات مثلما حصل مع الدائرة التي سببها سقوط نفيسة في النيل. العام 1949 هو أول بوادر الحرب الباردة، في منطقتنا تم إعدام فهد في العراق وأنطوان سعادة في لبنان، وبدأت سيمون دو بوفوار بكتابة (المثقفون) وسارتر بثلاثية (دروب الحرية) وكذلك إيليا أهرنبورغ ( ذوبان الجليد )، لكن نجيب محفوظ يبرر قسوته على أبطاله بأن( بداية ونهاية ) هي قصة عائلة يعرفها حقا. وهنا يريد محفوظ القول بأنه هنا يتحول إلى (قارئ) وليس ككاتب، قارئ يقرأ جزءا من كتاب الحياة وقد يكون الكتاب مرحا بشكل عام.
وهكذا، بين القراءة والكتابة، شعرة أو لحظة، لكنها كاللحظة التي اصطدم فيها جسد نفيسة الخاطئ أو المعذب بنهر النيل، وكانت مهنتي القراءة طوال حياتي المتعثرة، قراءة الوجوه والوقائع ومصائر البلاد والعباد، لكني أتهرب من قراءة ذاتي، وذاتي غير نفسي كما قلت، ذاتي تكتب وأنا أقرأ، تكتب إلى لا أحد وأنا أقرأ كل شيء، وقد يحصل أو حصل فعلا خلط طفيف أو تبادل قلق بالأدوار، لكني أحتفل هذه الأيام بقتلي للوهم وعودتي (قارئا) فحسب، لأتم حياتي مثلما بدأت، حياة هامشية تستوطن الرصيف ويثيرها قرفا الزحام والتدافع، حياة عادية جدا لمواطن يتلقى الضربات والخيبات وفقد القدرة وحتى الإرادة على الرد، حياة تقليدية بـ (بداية ونهاية).