إستراتيجية الفكر الشمولي.. بسط النفوذ وتحقيق الإستقرار القهري
أحمد فكاك البدراني
الفكر الشمولي هو نمط من التفكير السياسي والاجتماعي الذي يسعى إلى توحيد السلطة تحت قيادة واحدة أو مجموعة محدودة. يعتمد هذا الفكر على تصوّر أن الدولة يجب أن تكون خاضعة لهيمنة كاملة من قبل السلطة الحاكمة ، بحيث لا يوجد مجال للاختلاف أو المعارضة.
ويعد هذا النظام أن جميع مؤسسات الدولة ومواردها يجب أن تكون تحت سيطرة القيادة لضمان تحقيق الأمن والاستقرار.
لكن على الرغم من أن هذا النظام قد يبدو في ظاهره الإمكانية والقدرة على تحقيق الاستقرار ، إلا أن له عواقب غير حميدة على المدى البعيد ، من خلال تحقيق بيئة من القمع والسيطرة المطلقة.
بسط النفوذ على مفاصل الدولة :
أحد أهداف الفكر الشمولي هو تجميع السلطة في يد القائد أو الحزب الحاكم.
يبدأ ذلك عادة بالاستيلاء على مفاصل الدولة الرئيسية مثل الجيش ، الشرطة ، القضاء ، وسائل الإعلام ، والاقتصاد. من خلال هذه السيطرة ، يتم تقليل أو القضاء على أي تهديد محتمل للنظام القائم ، سواء كان داخلياً أو خارجياً.
تتضمن الاستراتيجية الشمولية تكتيكات مثل إزالة أي معارضة من الساحة السياسية ، وفرض الرقابة على المعلومات ، وتوظيف جهاز أمن قوي للترهيب والضغط على المواطنين . لا يُسمح لأي جماعات أو أفراد بالتعبير عن معارضتهم ، وغالبًا ما يتم استخدام وسائل الإعلام الحكومية لتقديم صورة تظهر حسنات الواقع وتجميل صورة النظام.
تحقيق الأمن والاستقرار القهري :
أحد العوامل التي يروج لها النظام الشمولي هو تحقيق الأمن والاستقرار ، ولكنه في الواقع لا يتم إلا من خلال القمع والسيطرة. يُقدّم الأمن على أنه الهدف الأسمى ، ولكن في هذا السياق ، يتم بناء هذا الأمن على حساب الحريات الفردية.
في الأنظمة الشمولية، يُجبر المواطنون على القبول بسياسات القيادة ، ويعد أي معارضة تهديدًا للأمن القومي.
إن فرض الاستقرار من خلال القمع يؤدي إلى بيئة تفتقر إلى الحرية والتنوع الفكري. رغم أنه قد يبدو أن الدولة أكثر استقرارًا على السطح ، إلا أن هذا الاستقرار لا يكون مستدامًا على المدى الطويل ، الضغوط الداخلية الناجمة عن الاستبداد قد تؤدي إلى اندلاع الأزمات والاضطرابات في المستقبل.
كسب الولاء لمجموعة معينة
من الاستراتيجيات الشمولية الأخرى ، العمل على كسب الولاء التام من الجماهير للحزب الحاكم أو القائد. يتم ذلك من خلال مجموعة من الأساليب النفسية والاجتماعية ، مثل خلق عدو مشترك (سواء كان داخليًا أو خارجيًا) الذي يُمكن أن يُجمع حوله الشعب.
غالبًا ما يتم تصوير القيادة كحامية للأمة والمدافع عن مصالح الشعب ، وفي هذا السياق، يُطلب من المواطنين أن يظهروا ولاءهم الكامل للقائد أو الحزب.تعتمد هذه الاستراتيجية على تقنيات الدعاية ، التعليم ، وتشكيل القيم الاجتماعية بحيث يشعر الأفراد بأنهم جزء من “الكل” ويجب عليهم الامتثال للأيديولوجية السائدة. ولأجل كسب الولاء ، قد يتم تقديم مزايا اقتصادية أو اجتماعية للمؤيدين ، مما يعزز من ارتباطهم بالنظام.
استمرار تأثيرات الفكر الشمولي على الدولة والمجتمع :
عندما يتوغل الفكر الشمولي في أركان الدولة ، فإنه يتسبب في تشكيل بيئة ثقافية واجتماعية وسياسية تكون مهيأة بشكل دائم للنزاعات الداخلية ، حيث تفقد الدولة قدرتها على التفاعل مع المتغيرات الحياتية والاجتماعية. تفرض القيادة الشمولية رؤية محددة للعالم ، وتنكر كافة التوجهات الأخرى التي قد تكون أكثر تنوعًا أو تتبنى خيارات بديلة.
التأثير على المؤسسات السياسية :
من أولى المؤسسات التي تتأثر بالنظام الشمولي هي الأحزاب السياسية والمعارضة. اذ يتم تجفيف الساحة السياسية من أي فعاليات معارضة أو تعددية ، ويصبح من المستحيل على أي تيار فكري أو سياسي التفاعل بحرية في المجتمع.
يقوم النظام بتعزيز شخصية القائد الفردية بشكل مستمر ، ويُحول الحزب الحاكم إلى أداة خدمية للسلطة وليس طرفًا سياسيًا يتفاعل مع الشأن العام بناءً على معايير ديمقراطية.
الرقابة على الحزب وتوجيهه نحو التماهي مع القيادة السياسية أو العسكرية يعني أن المؤسسات السياسية تفقد قدرتها على التنوع والتطور ، مما يؤدي إلى تدهور الثقافة السياسية داخل الدولة. يصبح الحوار السياسي محصورًا في دائرة مغلقة ، وتختفي أصوات المعارضة التي قد تكون قادرة على تقديم بدائل أو نقد بناء للنظام الحاكم.
التأثير على الإعلام والثقافة :
الإعلام في النظام الشمولي يعد أداة أساسية للتوجيه والتحكم في الرأي العام. إذ يسعى النظام إلى فرض الرقابة على وسائل الإعلام بحيث تصبح هذه الوسائل في خدمة أهداف الدولة فقط ، ويتم استخدام وسائل الإعلام لنشر الدعاية الرسمية وفرض الصورة المثالية للقيادة.
يتم تقييد حرية الصحافة ووسائل الإعلام ، وبالتالي يغيب التنوع في الأفكار والرؤى.
هذا يؤدي إلى خلق بيئة من الجمود الثقافي والفكري ، فلا تكون هناك فرص حقيقية للنقاش العام أو لحوار بناء بين مختلف شرائح المجتمع. تصبح الثقافة في هذه البيئة مشوهة ومجمدة ، لا تعكس الواقع بشكل كامل أو صادق او حقيقي.
القمع والاحتقان الاجتماعي :
الاستقرار الذي يتحقق في ظل الأنظمة الشمولية لا يكون حقيقيًا؛ لأنه غالبًا ما يتأسس على القمع الممنهج للمجتمع. تستخدم السلطة أدوات القمع مثل الاعتقالات الجماعية ، والتعذيب ، والتصفية السياسية لكل من يعارض النظام أو حتى من يُشتبه في أنه قد يعارضه. ويجعل هذا القمع المواطنين يعيشون في حالة من الخوف المستمر من الأجهزة الأمنية. ومع مرور الوقت ، تترسخ مشاعر الاضطهاد والاحتقان الاجتماعي في المجتمع.بينما يسعى النظام إلى تقديم صورة من الهدوء والاستقرار ، يظهر ذلك فقط على السطح. الواقع الاجتماعي يمتلئ بالتوترات والتناقضات التي لا يمكن للأجهزة الأمنية السيطرة عليها بشكل دائم. تلك التوترات ، إذا لم تجد مخرجًا عبر قنوات التعبير السياسي السلمي ، قد تنفجر في شكل احتجاجات أو ثورات مفاجئة ، مما يؤدي إلى انهيار النظام الشمولي في نهاية المطاف.
التركيز على القائد وتحويله إلى رمز :
في الأنظمة الشمولية ، يركز النظام بشكل مفرط على إضفاء الهالة على القائد وتقديس شخصيته.
تُعرض القيادات الشمولية كرموز مقدسة لا يمكن المساس بها أو انتقادها. تتحول الدولة إلى نظام تابع لشخص القائد ، حيث لا تكون المؤسسات أو حتى القانون فوق شخصيته.
تنتج هذه التقديسات والعبادات السياسية بيئة يكون فيها القائد محط إعجاب الجميع ، ولكن مع ذلك يبقى الشخص الوحيد القادر على اتخاذ القرارات المصيرية في الدولة. هذه الهيمنة على الدولة بواسطة القائد تؤدي في النهاية إلى ضعف المؤسسات التي يجب أن تدير الدولة في شكل جماعي أو مؤسسي ، مما يسبب انهيار النظام عندما يواجه القائد أي أزمة كبيرة.
التحولات السلبية على الاقتصاد :
من بين أبرز التأثيرات السلبية للنظام الشمولي هو تأثيره على الاقتصاد الوطني.
اذ ان الدولة تتحكم في معظم أو كل القطاعات الاقتصادية ، مما يعزز الفساد ويسهم في إدارة غير فعالة للموارد. القيادة المركزية التي تتحكم في جميع القرارات الاقتصادية غالبًا ما تفتقر إلى القدرة على تكييف السياسة الاقتصادية مع التغيرات الحاصلة في الأسواق أو على المستوى العالمي.
كما أن غياب الشفافية والمنافسة العادلة يؤدي إلى تدني مستويات الإنتاجية، وانتشار المحسوبية والفساد داخل الجهاز الإداري.
استحالة التغيير الداخلي :
إن من أبرز سمات الأنظمة الشمولية هو غياب فرص التغيير الحقيقي. فالأدوات المستخدمة للسيطرة على الدولة تكون قائمة على القمع والتضليل ، مما يعوق أي نوع من الإصلاحات الداخلية الجذرية.
تصبح الأجهزة الحكومية والنخب الحاكمة رافضة لأي نوع من الإصلاح أو التغيير الذي قد يهدد وضعها القوي.
كلما تقدم الوقت ، تصبح الأنظمة الشمولية أكثر تكلسًا وعجزًا عن الاستجابة لمطالب الشعب أو للتحديات الداخلية والخارجية.
تتراكم الأزمات السياسية والاجتماعية ، ويصبح من الصعب على النظام أن يتأقلم مع التحولات العالمية أو الوطنية. ما يعزز حالة الجمود والفشل ، وتصبح النهاية الحتمية هي تفكك النظام أو تحوله إلى شكل آخر من الاستبداد.
نهايات غير حميدة :
على الرغم من أن الفكر الشمولي قد يحقق في البداية بعض المكاسب ، مثل استقرار ظاهر أو تحكم تام بالموارد ، إلا أن نهايته غالبًا ما تكون غير حميدة. هذه الأنظمة تصبح عرضة للتحلل الداخلي ، حيث يتراكم الغضب والتوتر الاجتماعي. قد يُنتج القمع المستمر مشاعر مقاومة وعزلة بين الشعب ، مما يؤدي في النهاية إلى انهيار النظام.
وعلى الرغم من ذلك ، فإن السيطرة على كافة مفاصل الدولة تمنع ظهور أي بديل سياسي أو فكري.
في غياب الديمقراطية والعدالة ، يتدهور النظام السياسي والاجتماعي ، مما يؤدي إلى حالة من الجمود أو الانفجار الاجتماعي. يمكن أن يتحول الشعب إلى قنبلة موقوتة إذا ما كانت المطالب غير الملباة أو الاحتجاجات تتراكم بمرور الوقت.
وفي نهاية القول نجد إن استراتيجية الفكر الشمولي ، على الرغم مما قد تحققه من استقرار قسري وقوة قهرية من القيادة إلى المجتمع ، لا تعد نموذجًا مثاليًا للحكم. فبسط النفوذ على مفاصل الدولة ، وتحقيق الأمن من خلال القمع ، وكسب الولاء بشكل زائف يؤدي إلى نهاية غير حميدة لأن هذا النموذج يعوق الابتكار ، ويقتل أي فرص للتطور الاجتماعي والسياسي ويعجز عن توفير النمو المستدام أو التحولات الإيجابية للمجتمع.
الحكومات التي تعتمد على الشمولية عادة ما تواجه التحديات الأكبر في الحفاظ على استقرارها على المدى الطويل لأنه يقوم على القمع والرقابة والهيمنة المطلقة.، وفي النهاية ، تبرز الأزمة الاجتماعية والسياسية التي تؤدي إلى تدهور النظام أو انهياره. وينتهي بها الأمر إلى الاضطرابات والفوضى بسبب فقدان الثقة وغياب العدالة.
وزيرالثقافة والسياحة والآثار