الدراما الطائفية..إنحراف الفن عن جوهره الجمالي والمعرفي
شوقي كريم حسن
شهدت السنوات الأخيرة تحوّلًا خطيرًا في طبيعة الإنتاج الدرامي، حيث لم يعد يقتصر دوره على تقديم محتوى فني يحمل قيمة جمالية ومعرفية، بل أصبح أداة في صراعات طائفية مكشوفة، يُستخدم فيها التاريخ كوقود لإذكاء النعرات وتعميق الانقسامات. لم يعد الهدف من بعض الأعمال التاريخية تقديم قراءة فنية رصينة للأحداث، بل صار الأمر أشبه بحرب إعلامية تُستخدم فيها الدراما كسلاح لفرض السرديات الأحادية وإعادة إنتاج الخصومات التاريخية ضمن سياقات معاصرة.في هذه البيئة المشحونة، لم تعد بعض القنوات تكتفي بعرض عمل درامي يحمل رؤية معينة، بل تحولت الساحة إلى معركة مفتوحة، حيث يرد طرف على الآخر بإنتاج مضاد، فتُعرض شخصية تاريخية في عمل واحد بوصفها بطلاً، ثم يُعاد تقديمها في عمل آخر كخائن أو مجرم. يحدث هذا في غياب أي التزام بالمنهجية التاريخية العلمية أو بالمسؤولية الفنية، بل يتم توظيف الشخصيات والأحداث وفق رؤية إيديولوجية مسبقة، تُحركها دوافع سياسية أو طائفية، وليس البحث عن الحقيقة أو تقديم رؤية فنية تفتح آفاق التفكير.هذا النهج لا يخدم الفن بأي شكل من الأشكال، بل يُحوّله إلى أداة تحريضية، تعيد إنتاج الكراهية وتُكرّس الاستقطاب داخل المجتمعات. إن الفن، في جوهره، رسالة إنسانية تهدف إلى تعميق الفهم والوعي، وإثارة الأسئلة بدلًا من تأجيج العداء. لكنه، في ظل هذا الانحراف، يفقد وظيفته الإبداعية، ويتحول إلى منبر للتحريض الطائفي، حيث يتم استدعاء الماضي لا لفهمه، بل لتصفية الحسابات.الأخطر من ذلك أن هذه الدراما الطائفية لا تقتصر آثارها على المشاهد البالغ القادر على التمييز، بل تمتد إلى الأجيال الجديدة، التي تنشأ في مناخ مشحون، يُقدَّم فيه التاريخ بوصفه صراعًا أزليًا لا مجال فيه للتعايش أو الفهم المتبادل. إن زرع هذه المفاهيم عبر الدراما يجعلها أكثر تأثيرًا من الخطاب السياسي المباشر، لأنها تتسلل إلى الوجدان قبل العقل، وتُعيد تشكيل الوعي الجمعي بصورة غير واعية، مما يكرس الانقسام بدلاً من تجاوزه.إن مسؤولية صناع الدراما، باعتبارهم جزءًا من المشهد الثقافي، تفرض عليهم التوقف عن هذا النهج الخطير، والعودة إلى جوهر الفن بوصفه فضاءً للإبداع والمعرفة والجمال، لا ساحة لتصفية الحسابات. كما أن على المؤسسات الإعلامية أن تدرك خطورة هذا المسار، وألا تنجرف خلف موجة الإثارة التي تضمن نسب مشاهدة عالية لكنها تُدمّر النسيج الاجتماعي.
وسيلة وعي
لقد أثبتت التجارب أن الدراما قادرة على أن تكون وسيلة للارتقاء بالوعي وتقديم قراءات عميقة للتاريخ دون السقوط في فخ التحيّزات الإيديولوجية. والتحدي الحقيقي أمام صناع الدراما اليوم هو إعادة الاعتبار للفن بوصفه أداة لفهم الذات والآخر، وليس ميدانًا لإشعال مزيد من الحرائق في مجتمعات تعاني أصلًا من انقسامات عميقة. إن مواجهة هذا الانحراف في الدراما الطائفية لا تكون فقط عبر النقد، بل تتطلب إعادة بناء رؤية جديدة لدور الفن في المجتمع. فبدلاً من تحويل الشاشة إلى ساحة معركة بين روايات متضادة تخدم مصالح آنية، يجب أن يكون هناك توجه لإنتاج أعمال تضع الإنسان في قلب الحدث التاريخي، وتتناول الوقائع بموضوعية وانفتاح، دون محاولة فرض رؤية أيديولوجية محددة أو تكريس صورة نمطية عن الآخر.إن التاريخ، بحد ذاته، ليس مجرد سلسلة من المواجهات والانقسامات، بل هو أيضًا حقل غني بالتفاعل الثقافي والتجارب الإنسانية المشتركة. وبالتالي، فإن أي عمل درامي يسعى إلى معالجة الأحداث التاريخية عليه أن يركز على العوامل الإنسانية التي تجمع، بدلًا من تلك التي تفرق. يجب أن يكون الهدف هو إضاءة الجوانب المخفية في الشخصيات والأحداث، وتقديمها ضمن سياقاتها الزمنية والاجتماعية، بدلًا من إعادة إنتاجها كأيقونات للصراع الدائم.
كما أن على المؤسسات الثقافية والأكاديمية أن تلعب دورًا محوريًا في تصحيح هذا المسار، عبر تقديم استشارات موضوعية لصناع الدراما، وتعزيز ثقافة البحث العلمي في الكتابة الدرامية. لا يمكن للفن أن ينفصل عن المعرفة، وإلا أصبح مجرد أداة ترويجية لنزعات عاطفية غير مؤسسة.
إن بناء وعي تاريخي سليم لدى المشاهد لا يكون عبر خطابات تحريضية مقنعة بصيغة درامية، بل من خلال أعمال متوازنة تحترم عقل الجمهور، وتترك له مساحة للتفكير بدلاً من دفعه إلى تبني مواقف متشنجة.أما الجمهور، فهو الحلقة الأهم في هذه المعادلة. إن وعي المشاهد هو العامل الحاسم في إفشال الدراما الطائفية، إذ لن يجد هذا النوع من الإنتاج بيئة خصبة للنمو إذا كان الجمهور قادرًا على التمييز بين الدراما الفنية والدراما المؤدلجة. ومن هنا تأتي الحاجة إلى تعزيز التفكير النقدي لدى الأفراد، ورفع مستوى التلقي الفني، بحيث لا يكون المشاهد مجرد متلقٍ سلبي للرسائل التي تمررها هذه الأعمال، بل شريكًا في تقييمها وإعادة النظر في مضامينها.إن استمرار هذه الحرب الدرامية الطائفية ليس مجرد انحراف فني، بل هو تهديد مباشر للحمة المجتمعية، وتكريس لمناخ الكراهية الذي ينعكس على مختلف جوانب الحياة السياسية والاجتماعية.
وإذا لم يكن هناك تحرك جاد لوقف هذا المسار، فإننا سنكون أمام أجيال تتربى على سرديات مشوهة، تُعمّق الهوة بين مكونات المجتمع، وتؤسس لواقع من العداء المستدام.إنقاذ الدراما من هذا المصير يتطلب مسؤولية جماعية، تبدأ من صناع القرار الإعلامي، مرورًا بالمبدعين والباحثين، وصولًا إلى الجمهور ذاته. وحدها الدراما التي تحترم عقل المشاهد، وتسعى إلى تقديم الحقيقة بجماليات فنية راقية، يمكنها أن تؤدي دورها الحقيقي في بناء الوعي وترسيخ قيم التفاهم والتعددية، بعيدًا عن منطق التصادم الذي لا يليق بالفن، ولا يخدم المجتمعات.