الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
حبة كنغر

بواسطة azzaman

قصة قصيرة

حبة كنغر

محمد اسماعيل

 

صدفة، ولد من الجزء الجنوبي للرحم، ذلك الجزء الأوسع فيه "للظلام باب واسع، يدحو الناس غيابته، خارجين،…، إنهم يموتون بعض الشيء، بينما انا عاطل ومؤجل".

***

لم يكن الأمر برمته، غير إلتباس بسيط بالمطر، هطل غزيراً، أوان الطلق المتمخض، عن تسعة أشهر من الحمل الواهن، كرها، نضج خلالها، على ساعات هادئة، في مرجل الظلام.

حين نزل الى الحياة، تهجدت العائلة جمعاء، ساجدة، في حضرة الحيرة والإرتباك؛ لهول المفاجأة.. إلا جدته، المنتصبة.. قائمة، فضحكت، فالتفت الجميع، هابين من سجدتهم، إليها بالنظر، وللسرداب بالظنون.

حدق بعينين أفزعهما الضياء، للوهلة الأولى، كأنهما جرحان، ينزفان الأشياء.. من حوله.. الأهل يحدِّقون، فاغري أفواههم، مثل جراح تنزفه...

***

كلهم ظنوا، أن إلتباساً ما، معقداً وشنيعاً، وراء هذه الولادة الصماء! إلا ان المطر الهامي، خارج الدار، شاغله، فنسي أن يبكي ككل المواليد، وعندما إجتاز الوقت اللازم من دون صراخ، أمام إنتظار الجميع؛ نما ضمير ميت، في رؤوس أصابعه، فراح يتحسس بقايا الدم العالق به، من جنوب الرحم، الذي لفظه تواً.

عرف بضمير أصابعه الميت، أن قلبه حقول، من النباتات المخصية، ذات أمعاء شاردة، يلملمها بهدوء، من دون ما صراخ.

حين رأت جدته، أن حفيدها، ولد بيسر باهت، لا يعقل، صاحت بلغة قديمة، منقرضة: (هذا لا يليق) وضرب خاله، بإصرار، على شراشف النور الحريرية، في زوايا الغرفة، تلك التي.. الهواء والضياء، يحاولان النفاذ منها، منذ أول الزمان حتى آخر الزمان، ولا يفلحان.

المطر الهامي خارج البيت، لم يدارِ خيبة الطلق، الذي ألقى بالجنين، هكذا، من دون حساب.

***

عادت الجدة لتفرح والخال، مع الجميع، فرحاً ينتشر من أعينهم، كالبخار، ليترسب على الجدران، طمياً بحرياً يرسو، شيئاً فشيئاً.

كانوا فرحين به، كأنما هو عائد، من تيه أربعين عاماً، بين رحم أمه وظهر أبيه، ماحياً الحراس المكلفين ببوابة الرحم، منعتقا، من أسار الحندس المضغوط.

***

كلما تحدثت الجدة، إلتفتوا صوب السرداب، متذكرين حادثة دهس.. جدهم داس سهواً على عباءة إمرأة، كانت تسير أمامه، فإختلط الأمر عليه، وسيق الى الإعدام في ظروف غامضة.

السرداب أظلم، ويزداد حندساً، كلما تذكروا الجد المعدوم ببساطة، تاركاً، أرملته تعاني من وضع حفيدها التدريجي.. إستحال السرداب الى صوت معتم، مضغ الجد، على مرأى منهم، حين كاد يبزغ من الأمنيات، مستجمعاً نفسه، في فضاء الغرفة فوق الرؤوس، أوان البشر المطلق، بولادة الحفيد، ولم يتم تجمع الجد.

شددت الجدة قبضتها مرفقة بالوليد… ومع إعتذارهم بضيق الوقت، عن إحتمال الخرافات، إلا أنهم توزعوا مغالطين قناعاتهم، تِبْعَ الصوت الذي مضغ الجد، قبل سطور، وخلفوا الجدة، لا معنى لها، سوى اللهو، محدبة على الوليد.

***

إمتلأ البيت بالسرور، مزاحماً الأنفاس، ومرتسماً على الجدران، مضيقاً ما بينها بشكل يلفت المخاوف.. له شعيرات دموية باهتة، لا تنفعه في الحياة، إلا أنه تماسك، حال وصوله، وملامسة أنسجته الهواء.. الهواء الساكن، في إنتفاخ الغرفة بفرح الأهل.. فرح يداهم الجدران، وأديم ملاطها...

... كما ينبغي…

... له أخت لا تجيد سوى الشتائم، تلهج دائماً بالضجر، وأخ متردد.. ضعيف اللهاث في الليالي الواهنة تحت القمر، إذ يظل يحدق فيه، حتى تدمع عيناه تعباً؛ فأدمن العادة القمرية، وظل أسير ممارستها طوال العمر.

أخواه، سرعان ما يتلبسهما شيطان الضجر؛ فيخليان الساحة للجدة والخال. يستغلانهما.

***

قالت الجدة:

-           حفيدي لا يفقه اللغات العتيقة لكنه فهم بقلبه.

رد الخال من بين صمت العائلة:

-           …………

ففسروا صمته بالـ "كان من الممكن، أن يتم إنجابه في المستشفى، والى جانبه قزم كسيح، ولد من جنوب الرحم مثله، يضحك من عوقه بإستمرار، إذ أن بعض الجنوبيين في حالات الإعاقة القصوى، ينفجرون كالأصابع الملغومة بالهزل، خاصة في المستشفيات؛ فهو من معوقي الزمن، أولئك الذين لا تشفي جراحهم الأعذار، ولا ترقي مخاوفهم الأادعية، فيما لو تم إنجابه في المستشفى".

صباحا.. في اللحظات البكر من فجر المستشفى، جاؤوا بالحليب مطفأ، كالجفت أو عصارة الأحقاد؛ ذلك لأن إنقطاع التيار الكهربائي، بعمق ألف سرداب، من أصل العائلة، إمتص بريق الإحساس بالغذاء، وجذر من عاديته.

***

تم إستقبال الوليد، بإحتفاء، يشوبه السرداب، بأنواع الظنون.

-           سأموت من الضحك، أو من فكرة عصية، تختلج في رأسي.

كانوا جميعاً فرحين به.. مرة واحدة، وبذبذبات تتزامن على غير طاقة الدار، وما إعتادت عليه الجدران، فبدأت تتقوض.

***

مات القزم، جنوبا، الى اليسار، في السرير السابع من ليل المستشفى، وقيل في السرير الثاني عشر.. مات في إثنين وسبعين سريراً، مرة واحدة والى الأبد، حينها كان المطر يكوي أسلاك الكهرباء ببعض التماس.

بينما هم حزانى لموت القزم، أعدم الجد، في غفلة منهم، قبل أن يتموا الإلتفات نحو السرداب جيداً.

تحسس الوجوه بضمير أصابعه الميت؛ فرأى أخته تطمن حاجاتها الأنثوية بالرهبنة، وأخاه يدمن العادة القمرية.. ضعفا.. أيام بروك الليل جاثياً على الدار بالشتاء والمطر وإنقطاع الكهرباء، ورأى الى خاله يشكو تهتكه وإنحلاله الأخلاقي طوال العمر، من دون أن يقدم عليه فعلاً، إنما هو محض إدعاء شوهه سمعته متباهياً.

***

أسقط بيد جدته؛ حالما علمت بشفافية تعلقه بنبراس.. حب يوارب دونما هوى صريح، فهو يغازلها على طريقة الشفلات والكرابات وحادلات الشوارع البلدية، المنغرزة في ضلع المدينة، اذ ظن في الكريدرات حباً جماً، ومشاعر لاتستكين، وفي دنابر الإسمنت وخلاطاته، معيناً خرافياً لا ينضب.. يعذب قلبه بالألفة والحنين.

تذكرت الجدة، بلغتها المنقرضة، أنها تاهت.. يوماً ما.. أربعين عاماً، في صحراء سيناء، عرضاً وطولاً، دعت ربها خلال التيه:

-           رب دع من ذريتي أولياء يحبون فداءً للطافة.

***

عامت تباشير الصباح، فوق آخر موجة من ظلام، يمكن لزفير الليل أن ينفثها، إذا ما تنفس.

***

أحب نبراس ببساطة الأشياء الفقيرة، الملقاة باهمال، في باحة الدار:

طبق من الالمنيوم تشققت حواشيه بفعل القدم.. بطانية متهرئة، غاب لونها.. وعربة دفع يدوية.

أحبها بعنف الإصطدام المفاجئ لكائن رعديد، مع جاموس أسود.. يقف شاخصاً.. قرنيه.. في الظلام.

***

هَمَّ.. ككل الولدان بالصراخ، لكن بعد إنتفاء ليلة الوضع، بزمن طويل، ربما ساعة، أو ليلة، أو قرن من الزمان.. إنساب مع قناعتهم، بما يعرفونه، من أن الوليد يبكي حال نزوله واستنشاقه الهواء... بدءاً فتح فاه، فإنهارت جدران البيت، التي نخرها الفرح.

إنطبق حطام السقف، على البلاط، وبينها العائلة، كأنما كائن صخري مهول صفق برعونة؛ فتحطم.

تطوحت أعمدة الدار طويلاً، قبل أن تنتهي واقعة وقوعاً منفراً، أغاظ كل من كانوا في الدار ساعة إنهيارها، حتى أن الجدة تذكرت السرداب وسفاهة إعدام الجد، مما حدا بـ:

- كلا

نابعة من شغاف دهور قلبها، تنبثق، بينما خاله، قال:

-…….

لشدة نفوره من تخلخل الأعمدة، ضارباً كفاً بكف، مثل دار تشبه كائناً صخرياً صفق برعونة فتحطمت قبل سطور.

وكانت الترجمة الحرفية، للفراغات.. قبل وأثناء وبعد كلامه، تتلخص بالخشية على الوليد من التيه، أربعين عاماً أخرى في سيناء.

خرجوا من بين الأنقاض، وهم ينفضون الغبار، من على ثيابهم، معيدين بناء الدار من جديد… ساهم الجميع فيها، من دون إستثناء، حتى الكرينات السلكية العجوز... ولما فرغوا من العمل، إنتبهوا الى أن الوليد، قام بالجزء الأكبر من البناء.

***

أخذ جمال نبراس، شكلاً مهجوراً من الأوصاف، بعد أن رفض طارق الزواج منها، وجرجرها من شعرها، في الـ Coffee Shop ثم تركها معلقة، تتدلى للفراغ.. تبكي.. مثل سلحفاة تحبو على البراميل الفارغة.

ما زالت جدته، تكلم نفسها بالهدوء القديم.. ذاك البائد.. ذاته، وخاله يحاول أن يحكم الإمساك بالجدران، فتنفرط من بين أصابعه كالفرص الفائتة التي لم تستغل.. في حينها، منذ أربعين عاماً، خلت في سيناء.

قالت أخته:

-           ربنا إمحقنا، بلعنة من بين أيدينا، أو من خلفنا، أو من حيث لا نحتسب.

وقال أخواه:

-           أجل ذلك، أجله رويداً

ثم نسي.

قالت جدته:

-           غابت نبراس، وإنطفأت صفحتها.

قال أخواه:

-           غابت.

بخفوت.

الخلاف بين نبراس وطارق، يكمن في أنها كانت تسير أمامه، بينما هو يسير خلفها، وداس سهواً على عباءتها فليص في تخريج الأمر، ولم يجد ما يفعله، سوى أن يجرجرها من شعرها، في الـ Coffee Shop ولم ينتهِ الأمر عند هذا الحد، بل إنساب الى الفراغ.. كلاهما.. لمحت الجدة في خاطر الوليد جحراً للنمل، يدب منه بإتجاهين.. سافياً الى الفراغ.

***

ظل الأمر إلتباساً بسيطاً بالمطر، نما سريعاً وتطور، مختلطاً بتداخلات الأمور:

-           أقبلتُ من البوابة الجنوبية للرحم، صوب الصباح الصم، أدحو موتهم الجزئي بعطالتي، كيما أجزي المحسن بما أحسن، وأأخذ المسيء بما أساء.

واجماً في القمائط بينما أفراد العائلة حائرون.


مشاهدات 91
الكاتب محمد اسماعيل
أضيف 2025/02/09 - 3:32 PM
آخر تحديث 2025/02/10 - 6:32 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 428 الشهر 5382 الكلي 10400753
الوقت الآن
الإثنين 2025/2/10 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير