الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
أجهزة الراديو في الماضي الجميل

بواسطة azzaman

أجهزة الراديو في الماضي الجميل

ماهر نصرت

 

.... ان للأجهزة الصوتية القديمة سحر أخاذ يأسر العقول ويجعل المرء مغرماً بها لما تحمله من عبق التأريخ وعبيره المفعم بذكريات الآباء ومجد الأجداد بعد ان رحلوا عنا وتركوا ورائهم  اشيائهم  وما ينبعث عنها من عبير ذكراهم الطيب ورحيق زمنهم الجميل المليء بالأصالة والحنين والابداع  .

ان جلوسنا امام تلك الاجهزة الساحرة عندما نتفحصها بنظراتنا المملؤة بشوقٍ عميق ورغبة جامحة للحفاظ عليها ونحن نقلّب موجاتها ونستمتع بأصواتها وهي تخرج صافية ممزوجة برنين وصدى مجسم عميق وكأنه قادم من العهد البعيد فنبدو سعداء تغمرنا نشوة وانشراح حتى نطفوا بأرواحنا كما يطفوا زورق صغير على امواج البحر وهي تمضي به في عباب هادئ فنبدو وكأن نفوسنا المتعبة قد وجدت ضالتها وراحت تطل على فضاء سحري يمتص كل ما ترسب في مشاعرنا من قساوة العيش وآلام الحياة.

يتربع على عرش تلك الأجهزة القديمة أجهزة ( الكراما فون ) و( الراديوات الخشبية ) من الجيل الاول أي جيل الثلاثينيات والاربعينيات التي تعمل  بنظام  ( اللمبات ) او ما يسمى بالصمامات  قبل ان يتم اختراع الترانزسستور ،  وهذه اللمبات هي صمامات زجاجية صغيرة تتراوح اطوالها بين 4 الى 12 سم  مفرغة من الهواء لكي تعمل بثبات وحيادية تامة عند قيامها بتكبير او دمج الموجات التي يلتقطها الهوائي الملحق بالراديو حيث تتميز هذه الاجهزة بحساسيتها الكبيرة وقوة تكبيرها للموجات الملتقطة من وراء الفيض الموجي الكبير المتدفق داخلها وهذا يعود بسببه الى الفولتيات الكهربائية العالية المسلطة على اقطابها وخاصة بما يسمى ( الآنود ) وهو القطب المسؤول عن امداد المرحلة التي تليه بالإشارات اللازمة بضمنها السماعات أي (مرحلة الاخراج الاخيرة ) ..

ان هذا النظام المبسط جعل الكثير من هواة الراديو آنذاك يتخذوا من عملية الصيانة مهنة لهم فتحولوا الى محترفين ومبدعين واضافوا بنفس الوقت الكثير من الاكتشافات المذهلة الى هذه الآلات واستطاعوا بكفاحهم وأصرارهم المهني أن يعيدوا عمل مئات الاجهزة التي خرجت من الخدمة بسبب قدمها واستهلاكها وهذا ابداع نجده قائماً في الشعوب الذواقة التي تتمسك بماضيها وتعشق تراثها وتذهب الى ترميم  كل ما يمكن ان يعيد مجدها وذكراها ..... في الحقيقة ان جمال تلك الأجهزة المكعبة لايتوقف على أصواتها المجسمة  فحسب وإنما على أشكالها المزروقة ايضاً فأن أكثرها قد صنع من خشب الجوز والبلوط والصاج والكالبتوز وانواع أخرى من أخشاب لأشجار نادرة جاءوا بها من أعماق الغابات فصنعوا منها هياكل  جميلة لأجهزة صوتية مختلفة الاشكال والاحجام تتميز بجمالها الفائق وهي تبعث السرور والبهجة والاعجاب في نفوس الناظرين فقد وضعوا في واجهاتها اشكالاً مختلفة ًمن الزجاج الملون الذي طبعت عليه  ارقام القنوات وتردداتها او اسماء الاذاعات الدولية في بعضها الاخر كالراديو ( الفيليبس ) العجيب موديل 1965 الذي صنع من خشب الصاج وينزلق وراء تلك الزجاجات مؤشر بلون مميز ليكون علامة الدلالة في البحث والتقصي للمحطة المطلوبة وينعكس على الزجاجة الملونة والمؤشر البراّق ضوء خافت يخرج من احدى الانفاق في الواجهة الامامية السفلى فيتحول المنظر امامنا الى تحفة فنية رائعة لا نجدها الا في لوحات الرسامين المبدعين .

لقد عاصرت تلك الحقبة الزمنية التي كان فيها الراديو اللمبات يصارع  الوجود من اجل البقاء بعد ان غرقت الاسواق المحلية بالراديوات الخفيفة التي تعمل على الترانزستور او الدوائر المتكاملة التي لاتحتاج الى فولتيات عالية وتعمل على بطاريات جافة صغيرة تستبدل بين حين واخر .

 فمثلاً كان أحد الهواة المبدعين في هذا الشأن في تلك الحقبة الزمنية المنصرفة وهو من الرواد المتمكنين في عمليات الإضافة والتحوير ، محباً لتلك الاجهزة الى درجة كبيرة فتارة يعمل على تحوير في بعض توصيلات قطعها الالكترونية ليصنع من الراديو نفسه جهاز ارسال على الموجة المتوسطة او القصيرة وتارة اخرى يصنع منه مكبر صوت يعادل بقدرته مكبرات الصوت المستعمله حالياً في المساجد وهناك حادثة طريفة معروفة في بداية ثمانينيات القرن الماضي عندما قام بتحوير احدى تلك الراديوات ليصنع منه جهاز ارسال في ورشته المشهورة فشاءت الصدفة ان صاحب محل المواد الغذائية المقابل له يمتلك راديو هو الاخر ومن عادة الرجل الذي توفي مؤخراً

( رحمه الله ) ان يترك الراديو مشتغلاً طول الوقت فاستطاع ان يشرك موجة قناة الارسال التي صنعها في ورشته مع احدى موجات الراديو في المحل المقابل وطلب من صاحب المحل عن طريق الراديو من باب المزاح ان يرسل زجاجتين بيبسي كولا الى مبنى الاذاعة والتلفزيون فجن جنون صاحب المحل وقفز من مكانه الى الشارع  يصيح بأن الإذاعة طلبت منه ارسال زجاجتين ببسي ونحمد الله ان دائرة الأمن لم تشعر بهذا الاختراع والا لذهب المخترع الى غياهب الحجز والتحقيق لأن التعامل مع  اجهزة الارسال بأي شكل من الاشكال كانت ممنوعاً بشدة في حقبة الثمانينيات  ، يعتقد البعض بأن تلك التحويرات كانت بسيطة ولا تدعو الى العجب ولكني أؤكد بأن عمليات التحوير والإضافات على تلك الأجهزة  كانت معقدة بشكلٍ كبير وتحتاج الى عقول ملمة بكل خفاياها وهذا لانجده إلا في بعضاً من اصحاب الاختصاص المبدعين وهم نادرون في  كل مجتمعات العالم بسبب ان هذا النوع من الاجهزة  التي يكتنفها الغموض لاحتوائها على مسارات معقدة لترددات وإشارات غير مرئية وغير محسوسة تحتاج إلى من يستطيع اقتفاء أثرها وحل الغازها بدراية وخبرة واسعة عند التعامل معها .  لقد أسعدت هذه الاجهزة الناس كثيراً وانتشرت بشكل تجاري منذ مطلع الأربعينيات في المحلات والمقاهي والمساكن فهي تمزج بين سماع البرامج الإذاعية وبين التراث والجمالية التي تتميز بها وخاصة أجهزة الراديو الخشبية الكبيرة التي تحتوي على سماعات مضاعفة  وهي تتميز بصوتها ذات الرنين الغليظ والصدى العميق وهناك حادثة طريفة حصلت عند تشغيل الراديو في إحدى مقاهي بغداد لأول مرة فقد صادف حضور رجل يدعى ( سلمان سعفة ) وهو من إحدى القرى المجاورة لبغداد فعندما سمع الرجل صوت المذيع في الراديو الخشبي لأول مرة في حياته  وصوت الموسيقى جن جنونه وهرب من المقهى ضناً منه بأن الصندوق فيه جن وراح لقريته  يخبرهم عن ( ما رأى بعينيه وسمع بأذنيه ) فضحك عليه الناس ولم يصدقوا حديثه وقالوا مسكين لقد جن سلمان سعفة  فكيف يعقل ان فرقة موسيقية تعزف داخل صندوق خشبي صغير لاتتعدى ابعاده نصف متر فصار يعرف في قريته بأسم سلمان المجنون ومات الرجل المسكين منذ سبعين عاماً وما زال يطلق على عائلته لقب ( بيت سلمان المجنون ) ؟  ومن العجائب بهذا الصدد ايضاً أن والدي ( رحمه الله ) .

اقضية ديالى

كان احد أصحاب محلات بائعي هذا النوع من الراديوات  في احد اقضية محافظة ديالى يتعامل آنذاك مع تجار بغداد من مستوردي تلك الأجهزة وكان  يُجهّز بأعداد متنوعة منها ليبيعها للناس وكانت إذاعة بغداد آنذاك تبث بيت فترة واخرى أغاني الموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وام كلثوم وكذلك مطربي الريف العراقي منهم فرج وهاب وحضيري ابو عزيز فكان البعض من الذين يرغبون في شراء تلك الاجهزة من اهل الريف أو اهل المدينة نفسها  يطالبون  البائع  ان يجلب لهم راديوات تعرض أصوات المطربين العراقيين فقط ولا تعرض أصوات غيرهم وكانوا يترددون في شراء الأجهزة التي تعرض أغاني غير عراقية فكانت هذه مشكلة يعاني منها البائع فهم يعتقدون بأن هناك راديوات تختص في اغاني داخل حسن وحضيري ابو عزيز ومن لف لفهم  وهذا من المحال طبعاً  فالراديو يلتقط كل ما تبثه الاذاعة من برامج منوعة ( أُم كلثوم كانت او زهور حسين ) ... لقد تنوع التجار العراقيون في استيراد هذه الأجهزة من مناشئ مختلفة فمنها الراديوات الامريكية التي تتميز بكبر احجام لمباتها ( صماماتها ) مثل (أركسي اي) ومنها الاجهزة الروسية التي يصعب علينا حفظها وصعوبتها بسبب طول كلماتها ولكنها كانت دوماً تنتهي بـالحروف ( أوف ) مثل ( سمينوف ... كلاشنكوف ... غورباتشوف ) هههههههه  ..

عمليات الاستيراد

وهناك ايضاً الراديوات الانكليزية مثل ( ورتر فويس ) أو الصوت الاكثر روعة الذي يحمل علامة الكلب المشهورة وكان على رأس الاجهزة المستوردة ( الراديو فيلبس ) بموديلاته  المتنوعة ..لقد كان التجار اليهود أوفر حظاً في عمليات الاستيراد تلك ويقال بأن الحكومة العراقية اكتشفت آنذاك بأن بعض التجار اليهود في فلسطين المحتلة لهم اسهم في شركة فيلبس الهولندية التي تقوم بصناعة تلك الراديوات قبل ان ينتقل امتياز فيلبس الى المانيا والنمسا  فاوقفت التعامل مع الشركة الأم وفروعها وادخلتها في القائمة السوداء ولكن خدع التجار اليهود كانت أذكى من مقاطعة الدولة العراقية لهم ! فقد عمدوا الى تغيير اسم الراديو من فيلبس الى( سيرة ) وهذا ما يؤكده الفنيون اصحاب الورش في تلك الحقبة فعندما نقارن الدوائر الالكترونية للشركتين وارقام الصمامات وتغذياتها نجد ان هناك تشابه يكاد يكون مطلق بين تصاميم وعمل ذينك الجهازين والاختلاف الحاصل هنا كان في الاسم والشكل فقط فعبرت هذه الحيلة على الحكومة العراقية وعادت الشركة تصدر نتاجاتها الى العراق من جديد ولكن بأسم ( سيرة ) أي  بأسم مختلف وأشكال هندسية أخرى ، ان احد الاسباب التي دعت التجار في التحايل بهذه الطريقة يعود على ما اعتقد الى الارباح الطائلة التي كان يجنيها التجار من وراء بيع هذه الاجهزة في الاسواق العراقية  بسبب القدرة الشرائية الكبيرة التي كان يتميز بها الكثير من العراقيين آنذاك وخصوصاً الطبقة السياسية ( الارستقراطية ) منهم والطبقة البرجوازية أي طبقة التجار وحيتان السوق ... لقد كانت المقاهي  منتشرة  بشكل يدعو الى العجب ففي الوقت الذي راحت تخطط  فيه المانيا في اختيار نوع الطائرة التي تصلح  لعمل محركها التوربيني الجديد كان لدى مجتمعاتنا فراغ كبير وهدر للوقت وراح اصحاب المقاهي من يؤسس مجاميع للطاولي والدومينو وفتح مسابقات وجوائز للفائز الأول واينما وليت وجهك فثمة مقهى هناك مشحون بعشرات العاطلين عن العمل والمرابطين المعارضين والقوميين والوطنيين والشيوعيين الذي ينادون بالوحدة والتحرر والأدباء والشعراء والباعة المتجوليين والسماسرة والنصابين وأصحاب الكلاوات فكان المقهى الذي لايتوفر فيه راديو تجده خاوياً على عروشه وهذه خسارة عظيمة لصاحب المقهى فيهرع مسرعاً ليشتري اغلى أنواع الراديوات فيضعه على إحدى الرفوف المرتفعة الظاهرة امام الناس ويُثبّت مؤشره على اذاعة بغداد تماشياً مع المبدء القائل  ( زينة وخزينة) .

يحتوي  النوع الفاخر من تلك الراديوات على ( عين سحرية ) فيها لون اخضر يتذبذب تارة ويأخذ موقف الثبات تارة أخرى والعين السحرية هذه التي سحرت الناس وشغلت عقولهم هي في حقيقتها ( لمبة ) تقليدية يصدر كاثودها أي (قاذفها ) لوناً اخضر ينعكس على لوحة فسفورية صغيرة داخل زجاجة اللمبة تشبه الى حدٍ ما  الشاشة الصغيرة حيث  ترتبط عملية زيادة كثافة اللون وقلته مع قوة الانتقائية أي ( ألتقاط الموجات ) فكلما كانت الموجة الملتقطة قوية ارتفع منسوب قذائف الكاثود من ( الالكترونات ) فتزداد كثافة الضوء الاخضر وثباته داخل اللمبة وكلما ضعفت الموجة ضعف القاذف الكاثودي وراح الضوء الاخضر يعود خافتاً ضعيفاً يتأرجح بين الظهور والاختفاء .

لقد تطورت الصناعة وصار الراديو صغيراً جداً يحمله أي منا في جيبه فانقرضت تلك الاشكال الفلكلورية الجميلة التي كان لها دور كبير في صفاء الروح وسريرتها ودخل العالم ودخلنا معه في نفق ضبابي معتم مليء بالأرواح الشريرة ويشوب نفس المرء خوفٌ دائمٌ من المجهول وعدم الاشباع  والمستقبل الغامض وكأن التكنلوجيا المتطورة تفيض بالشر وتحارب مخترعها الانسان من خلال قواها الغامضة المنتشرة في الطبيعة ( احساس فقط )  فترى البشر حائرون يركضون وراء خبز عيشهم هائمون على وجوههم يهمهمون بكلمات غير مفهومة معترضين دوماً على حالهم واحوالهم  مهما  ملئت مساكنهم بالأموال والنعيم ومن يدري لعل الارض مع مجموعتها الشمسية المتجهة نحو كوكبة الأسد قد دخلت في رحلتها الكونية داخل المجرة الى اجواء من الطاقة السلبية التي تتصادم مع  أجسادنا وتجعلنا مضطربي المزاج عصبيون  يقودنا على الدوام سلوك الهم والغم  وعدم الرضا والشخصية المتقلبة  ... انصح  في علاج الطاقة السلبية ان ينام المرء على سرير يتجه برأسه صوب شمال الكرة الارضية المغناطيسي وقدمه صوب الجنوب واذا لم يشعر بالراحة النفسية عليه أن يقلب رأسه صوب الجنوب وقدمه نحو الشمال كما تفعل الابرة المغناطيسية في البوصلة  وليحاول في تثبيت سريره بزاوية فعالة داخل دائرة ذالك الفيض المغناطيسي عندها ستنتظم الطاقة داخل خلايا جسده وتترابط أواصرها بشكلٍ ناعم متآلف فيشعر على اكثر الظن  بالراحة النفسية والسكينة الجسدية  والطمأنينة الوجدانية ويشعر في أوقات كثيرة انه يطير في الهواء .. ههههههه .... وسلامتكم.


مشاهدات 51
الكاتب ماهر نصرت
أضيف 2025/01/17 - 11:55 PM
آخر تحديث 2025/01/18 - 8:20 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 174 الشهر 8090 الكلي 10198055
الوقت الآن
السبت 2025/1/18 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير