گزار حنتوش
حسن النواب
لقد عرَّجَتْ روح گزار إلى السماء قبل 18 عاماً؛ الملائكة التي استقبلتهُ، لم تجدْ أخفَّ منهُ جسداً وروحاً؛ لم تحملهُ على أجنحتها إنَّما حملتهُ في مآقيها، گزار يرفرفُ مثل طير حر وكفنهُ صار فجراً، حين دخل إلى الجنَّة سألَ عن الإمام علي «ع» فأخبرتهُ الملائكة:
- هبط يُطعمُ الفقراء وسيعودُ بعد الاطمئنان عليهم.
گزار في الجنَّة مازال ينتظرُ عودة حيدرة من الأرض؛ لكنَّهُ سينتظرُ طويلاً
لأنَّ الفقراء على الأرض أكثر من النجوم في السماء. گزار لم يأكل شيئاً في الجنَّة حتى الآنْ وأقسمَ أنْ يبقى في صيامٍ حتى يرى أمير الفقراء. إنَّهُ يرانا بوضوحٍ ويهزُّ برأسه أسفاً على بلادٍ مازالت تبحث عن وطن.
* ليلة أمس زارني گزار في مهجري؛ وجلسنا نحتسي ابنة الكروم بصمتٍ؛ حتَّى سألتهُ:
- كيف هي الجنَّة يا گزار؟
- وحشة!
- لماذا؟
- لأنَّكَ لست معي فيها.
- هل تريد موتي يا گزار؟
- لا أدري؛ لكنَّ انتظاري لكَ؛ عند بوّابة الجنَّة؛ طالَ كثيراً.
- عندما يكبرُ أطفالي؛ ستجدني بجواركَ على حينَ غرَّة.
- ليتكَ تفعلُ ذلك؛ وتزيحُ وحشة قاسية عن قلبي.
- أما رأيت جان دمَّو؟
نفثَ دخان سيجارته ثُمَّ قال:
- كأنَّهُ برجوازي.
- ماذا تعني؟
- يأتي خطفاً على مرابع الجنَّة؛ أكادُ لا أراهُ إلاّ بأحلامي.
- لماذا؟
- حمايتهُ من الملائكة لا تعدُّ ولا تُحصى.
كدتُ أختنق من الضحك حين سمعتُ ذلك؛ سألتهُ:
- گزار هل هناك طبقيَّة في الجنَّة؟
نظر نحوي محبطاً؛ ولأوَّل مرَّة أرى دمعة گزار تلمعُ في حدقة سمائه الدامية ثُمَّ قال:
- لا اشتراكية إلاَّ في الكتب؟
- ماذا تقترح؟
شرب كأسهُ؛ وقبل أنْ يختفي عن أنظاري قال:
- لا سعادة إلاّ على الأرض.
* أوصاني گزار في تلك الليلة قائلاً: عليكَ أنْ تكون أبيض القلب على الدوام؛ عليكَ أنْ تكون كريماً حتى في عوزك، عليكَ ألَّا تشبع، مادام هناك جائعٌ على الأرض، عليكَ أنْ تسمع أغنية بريئة كل فجر، عليكَ أنْ تُصلّي بعيداً عن أنْظار الغواية، عليكَ أنْ تلهج بدعاء الخير إلى الناس؛ قبل نفسك، عليكَ ألَّا تكون أنْيقا في مأتمٍ مغدور، عليكَ أنْ تكون طاهراً في حضيرة الفساد؛ عليكَ أنْ تكون روحك مرآة وجهك، عليكَ أنْ تبوس تراب أقدام والديك؛ قبل أنْ تنام، عليكَ أنْ تترك نصف طعامكَ لجارٍ فقيرٍ؛ عليكَ أنْ تبوح بالحقيقة حتى لو كنت على صليب، عليكَ أنْ تطلق الورد بوجه البنادق، عليكَ أنْ تشعل شمعة على جبين البلاد، عليكَ أنْ تنزف عرق جبين، عليكَ أنْ تذرف دمعاً ساعة بهجتك، عليكَ أنْ تبتكرُ بلاداً؛ تشبه وطنك في وحشة المهاجر، عليكَ أنْ تغفر لمن طعنك في الظهر؛ عليكَ أنْ تصغي لحديث الصمت، عليكَ أنْ تدع النار تشتعل في مهجتك؛ حتى يستدلُّ بها التائهون، عليكَ أنْ تتوضأ بدمعك؛ ساعة الصلاة لوطن بعيد، عليكَ أنْ تموت؛ وتترك دمك يزهر حديقة ورد؛ حينذاك ستدخل إلى الجنة محمولاً على أجنحة الملائكة.
* قبل يومين من ولادة ابني البِكر تبارك، هاتفتني زوجتي من البصرة حيثُ مسكن أهلها من خلال التلفون الأرضي إلى اتحاد الأدباء، اتصلتْ بأهلي في كربلاء أوَّل وهلةٍ وأخبروها أنَّهُ في بغداد، وبحدسها توقَّعتْ وجودي في نادي الأدباء لتخبرني أنَّها بحاجة إلى أجور الولادة؛ كان ذلك في أشد سنوات الحصار عام 1995من شهر تموز...
سألتها يائساً: كم هي أجور الولادة؟
قالت: عشرة آلاف دينار.
عدتُ إلى المائدة منكسراً، فتنبَّه الأصدقاء من حولي إلى قنوطي، همسَ بأذني گزار حنتوش ليسألني:
- أراكَ لست على ما يرام؟
- زوجتي على وشك الولادة.
- كان عليك أنْ تكون بجوارها.
- لا أمتلك أجور سفري إليها.
هبَّ گزار مثل عاصفة وتركنا، بعد نصف ساعة أقبل وربَّتَ على كتفي وأمرني بالنهوض، أخذ بيدي إلى باب نادي الأدباء ودسَّ بجيبي نقوداً؛ سألتهُ بوضوح:
- كم النقود؟
تبسَّم وقال:
- ما تكفي لتكاليف إنجاب زوجتك وشراء هدية لطفلك البكر.
وبرغم لقاءاتنا التي لا تعد ولا تُحصى، لم يذكر لي كيف حصل عليها؟ ولم أسألهُ من أين جاء بالنقود تلك الليلة؟ رحل صديقي الفذ گزار وكبُر صغيري تبارك، ولم أعرف حتى اللحظة من أين جاء گزار حنتوش بعشرين ألف دينار وتركها في جيبي.
* في لقاء تلفازي سألوا كزار حنتوش عن سر الصداقة المتينة بيننا أجاب: حسن النواب شر لابد منهُ.
* كان كزار يردد في جلساته هذه الجملة: لن يأخذني الموت مالم يأخذ معي شخصية مهمة؛ بعد رحيله بيومين أعدم الطاغية صدَّام وصدقت نبوءته.
* 18 عاماً مضت على عروجك إلى السماء، لكني لم أخبرك يوما، ما جرى لي بعد غيابك، الليلة سأخبرك وجسدي يرتعش الآن؛ لقد أصبحت يتيماً بعد موتك.
* رحل گزار في 29/12/2006؛ وكانت الليلة الأشد ظلمة في حياتي.