بعض تداعيات إحتلال الكويت: الحملة الإيمانية وأنساب العشائر العراقية
تُشكل القبائل والعشائر ركناً أساسياً من تركيبة المجتمع العراقي، واستطاعت أن تحافظ على بناها القديمة وبدت القبائل الكبرى كما لو كانت دولاً مصغرة ذات قيادة أبوية تسيطرعليها العائلات المتنفذة فيها وتمتلك قواتها الخاصة وقانونها العرفي وإقليمها الخاص.
إنًّ تباين دور العشائر في العراق عبر العقود السابقة، ما بين قوة وسطوة وما بين سكون وانحسار لدورها ضمن أفرادها فقط، يُعزى لأسباب عديدة، لعل أهمها قوة الدولة والحكومة ومدى الضبط الذي تمارسه الدولة على أفرادها. إنَّ قوة العشيرة ودورها في كل مرحلة من مراحل العراق، تتناسب عكسياً مع قوة الدولة، فمتى ما كانت الدولة قوية انحسر دور العشيرة وتراجع تدريجياً، والعكس صحيح فمتى ما كانت الدولة ضعيفة، يبرز دور العشيرة في مجالات عدة.
وارتباطاً بما سلف فمنذ تأسيس العراق الحديث فشلت النخب الحاكمة في أن تخلق هوية وطنية يجتمع حولها العراقيون وتتجاوز انتماءاتهم سواءً الطائفية أو الإثنية أو القبلية.
عندما وصل صدام حسين الى رئاسة العراق عام 1979 كانت القبائل العراقية قد لحق بها الضعف بفعل مركزية الدولة وأجندة التحديث ومحاولة النظام السيطرة على المجتمع. بدأ عهد صدام بالسعي لإستئصال القبيلة من المجتمع لكنه سعى لاحقا لتأسيس قبيلة الدولة حيث قام بنقل عائلته وعشيرته الى بغداد وجعل منهم سادة المدينة. كما اتخذ منهم حرس الحماية ووفر لهم مساكن خاصة في بغداد في الرضوانية والقصر الجمهوري وبعض الأماكن الخاصة.
أعتمد نظام صدام الولاء معياراً لتصنيف الناس. فعلى الرغم من استعانة صدام بأفراد عشيرته إلا أنَّ ذلك كان لأغراض حمايته الشخصية ومساعدته في السيطرة على مفاصل الدولة.
عندما خرجت المحافظات عن سيطرة النظام بعد حرب تحرير الكويت، وأتهم النظام المنظمات الحزبية بالإنسحاب وعدم الدفاع عن الحزب والثورة، وشعر بالضعف، أعاد الإعتبار للعشائر وقام بمكافأة شيوخها، مما أدى الى ظهور طبقة جديدة من الشيوخ أطلق العراقيون عليها “شيوخ التسعين” نسبة الى تلك الحقبة. وأنشأ النظام مكتباً لشؤون العشائر برئاسة راكان عبدالغفور يتبع رئاسة الدولة. وتم إغداق الهدايا على هؤلاء الشيوخ وتصنيفهم الى فئات، وكل فئة لها مخصصات تختلف عن الأُخرى. كما ظهرت مجموعة عُرفت بالنسابين وراج سوقهم، حيث بدأوا بإستخراج شجرات تمثل أنساب العشائر العراقية، فكان بعض من العشائر ينتهي نسبها الى رموزمرموقة من قبيلة قريش في مكة المكرمة عموماً وبعض الآخرمنها ينتهي نسبها الى بيت النبوة خصوصاً، كي تزداد تلك العشيرة رفعةً ومنزلةً ودرجةً بهذا الإنتساب، إضافة لما تقدم ادَّعى صدام أنًّ نسبه يمتد الى الإمام علي (ع) كجانب داعم لإحترام شخصيته ولكسب المحافظات الجنوبية التي ثارت ضده بعد هزيمة حرب الكويت. فأين هم من كتاب الله الذي يقول “إنًّ أكرمكم عند الله أتقاكم”. يا تُرى ما هي الأُسس التي أعتمدها هؤلاء النسابة لكي يتمكنوا من إعادة أصول العشيرة الى ألف وأربعمائة سنة خلت؟ ويا تُرى ألم يكن في العراق عرب قبل الفتح الإسلامي لكي تنتسب بعض العشائر اليهم؟
إنَّ من أهم أسباب تنامي النفوذ العشائري اليوم هو ما يعانيه العراق من ضعف في تعزيز سلطة القانون والدولة، وتراجع دور القضاء، وأصبحت الأجهزة الامنية هشة، وتنامي الفساد، فضلاً عن انشغال قادة البلد بحروب ومعارك داخلية.
إنَّ سمات وخصائص القبلية التي استفحلت في المجتمع العراقي اليوم بعد سقوط النظام والفوضى الشاملة التي أعقبت سقوطه، تختلف تماماً عما كانت عليه سابقاً، حيث كانت وظيفة القبيلة كمؤسسة اجتماعية تهدف الى الحفاظ على وحدة القبيلة وأفرادها وأعرافها وتضامن أفرادها في السراء والضراء، أما اليوم فتعمل القبيلة على إخضاع أفراد المجتمع المدني لأهداف سياسية ومصالح شخصية وسيطرة اجتماعية تتعدى حدود وظيفة القبيلة الى تأكيد دورها في المشاركة في السلطة أو أن تكون بديلاً معنوياً عن الدولة.
إنَّ الاعتزاز بالقبيلة والولاء لها دون الوطن يتحول االى قبلية تؤسس الى ضعف الاندماج الاجتماعي في المجتمع مع مكونات إجتماعية أُخرى وعدم قدرتها على التوحد في هوية وطنية واحدة تحقق الأمن والاستقرار والتعايش السلمي فيما بينها.
حما الله العراق وشعبه مما يُحاك له من فتن.
د. مناف حسن العلي/مدينة هيوستن- ولاية تكساس- أمريكا