الإتجاه المفاهيمي أو المزامنة لمستقبل الاشياء وإعادة خلقها
حكم ناطق الكاتب
اخذت الفكرة هاجسا مهماً عند العديد من الفنانين الذين يبحثون عما هو غير مألوف فذهبوا بعيداً جدا بخيالهم الخصب وجاء هذا في العمل الفني والعمل الابداعي وفي شتى ميادين الثقافة والفنون فلم تقتصر الحداثة على مجال واحدٍ بحد ذاته بل تعدته الى ميادين شتى حتى اصبحت حاجة ملحة لترجمة افكار وهواجس وارهاصات المرحلة الراهنة وترجمة المفاهيم الجديدة وقد اصطلح عليه بما (بعد الحداثة) او (الحداثة القصوى, او المعاصرة) فليس الامر الا محاولة منهم لاستعادة الارض السحرية الخصبة التي اهملتها تراكمات تقاليد الصبغة الفنية الرسمية التقليدية.
فمنذ أفلاطون وهيكل ووصولاً الى هربرت ريد. كان للجمال الفني قوانينه التي تكرس الواقع المُشاهد والمرئي في جوانب الاشتغال بالمرجعيات المستمدة غالبا من الطبيعة المرهونة بالقواعد التقليدية الفيزيائية .
وفي هذا الخضم والتخبط الحاصل في المفاهيم العالمية والاجتماعية عند المجتمعات والشعوب وضرورة الحاجة الى اتباع اساليب وتقنيات حديثة بعد الانهيار الذي حصل في المنظومة الانسانية والاحداث الحاصلة بعد الحرب العالمية الاولى والثانية التي طالت معظم مناطق الكرة الارضية وانصهار الانظمة الدولية في منظمات وهيئات وحركة النمو بعد التفتت ومرحلة البناء في منهجية العولمة والايدولوجيات التي اثرت على مسار وحركة التفكير لدى الفرد .. فقد شاع شعار (الحرية للجميع في الفن) هذا كان في منتصف القرن الماضي فبدء ذلك المدخل الذي ساهم في تحقيق نشاطات فنية مُتعددة عُرفت بالمفاهيمية أو (فن الفكرة) بالاتصال مع فن الجسد وفن الأداء وفن العرض الضوئي والاشتغال على استفزاز الحواس ويظهر ذلك جلياً في الخروج عن المألوف بالتشكيل والتصوير الفوتوغرافي والنحت بل وحتى في الفضاءات الخارجية التي لم يعد الابداع محصوراً بين اروقة القاعات والكاليريات وصالات العرض المسرحي فضلاً عن ذلك انسحب ايضا على فن السرد والشعر والنصوص النثرية بشكل عام وفن العمارة. وأيضاً لمسايرة التطور النوعي التكنولوجي بسبب التأثير الطاغي للاكتشافات العلمية على جميع الجوانب الحياتية ومنها التشكيل، وهنا يأتي تغيير المصطلح من فنون جميلة أو تشكيلية إلى فنون بصرية Visual Arts.
وكلها كانت جزءاً لما سمي بعد ذلك بما هو " أصلي Original " أو ما هو فريد وغير دائم ، فهو ليس للبيع وليس للاقتناء بل هو (فن للفن) والتعبير فقط ، ويختلف كلياً عن كل السياقات الفنية التقليدية ، وقد لا يكون من السهل أن تجتمع كل تلك الاتجاهات والأنماط في شيء واحد ولكنها مُجمعة من المنشورات المكتوبة والصور الفوتوغرافية والتسجيلات والخرائط والأفلام والفيديو وأجساد الفنانين ذاتها وكذلك اللغة ذاته ، فالنتيجة كانت نوعاً من الفن لا يهتم بالشكل وفي حالة من التكوين المركب في عقل الفنان مما يتطلب نوعاً مختلفاً من التلقي والانتباه والاشتراك الذهني مع المشاهد .
ولابد من الاشارة الى جذور الفن المفاهيمي وإنشطاره بشكل او بآخر عن الحركة الدادائية الجديدة سواء في أوروبا أو أمريكا هذا في مطلع القرن العشرين، ثم تأصل المفهوم في الستينات مرسخا ً بأن الفنان هو الاساس بترجمة فكرته باستخدام أي وسيط يراه مناسباً للتعبير عنها وله الحرية المطلقة في اختيار أي نوع من الخامات التي تخدم الفكرة، من دون التقيد بالأسس الفنية التقليدية والمألوفة، على أساس أن العمل الفني ليس منتجا جمالياً ، بقدر ما هو منتجاً فكرياً مترجماً تشكيلياً.
واذا عدنا بعيداً بالتأريخ فان بعض من ممارسات الفنون الاشورية والسومرية والفرعونية واليونانية والاسلامية, لوجدنا ان الفنان القديم قد اتجه بعيداً ايضاً عن النمطية التقليدية وجاء بالابداع مترجماً بالاعمال التي وصلتنا والى هذه اللحظة نجهل كيف كان يفكر بهذه العقلية العالية والفهم الموضوعي للفكرة وترجمتها وصياغتها بالشكل الذي تميز به وتفرد عن باقي الحضارات بالشكل الذي يجعلنا نقف متأملين ومنبهرين بالتقنيات العالية التي روضها لخلق بيئة فنية غاية في الفانتازية والغرائبية المفرطة.
مفهوم المفاهيمية الفنية
فالفن (المفاهيمي) فن يتضمن العمليات الفكرية ، ((فالفكرة هي فن المفهوم وهي الأداة التي تصنع الفن)) حيث تعلو فيه الفكرة على العمل الفني ذاته فتُصبح العملية الإبداعية مثل الفلسفة يُحددها الجدل ووضع التساؤلات لجدلية لينتج عن ذلك توظيف المدرك البصري بالتناغم مع شتى الحواس, حيث كانت أعمال فناني هذا الاتجاه مُتحررةً من القيود الاجتماعية ، والثقافية ، والشكلية ، والطرق التقليدية الخاصة بالعمل الفني ، حيث تخطى هذا الاتجاه الرؤية الخاصة بتحويل الواقع وصياغته من جديد في عمل فني ، وأصبح الواقع هو المجال الأساس للمقابلة الجمالية , فإن الفن المفاهيمي ليس إلا امتدادا طبيعيا لتطور مفهوم اللوحة التشكيلية او العمل النصي اوالحركي الادائي المسرحي ، وتفاعل الإنسان المبدع مع قضايا مجتمعه الإنساني، على اعتبار أن الفنان الذي يمارسه يفترض أنه مر بتجارب ومدارس فنية متعددة إلى أن وصل إلى مرحلة النضج والوعي، إضافة إلى ضرورة إسهامه في إقامة المحاضرات والندوات والورش وكتابة المقالات، لأن وظيفة الفنان لا تنحصر في إنتاجه الإبداعي وحسب، بل في الفهم والإدراك والتنظير لنتاجه.
وقد وصلتنا هذه الحركة الفنية متأخرة بعض الشيء وليس هذا مبرراً لعدم السير في خطى واسعة وجريئة فنحن العرب نمتلك كماً هائلاً من المخزون المعرفي المتوارث وكماً هائلاً من المفردات المحلية والتاريخية ، وان بقي ارث الشرق الاقصى لا يزال فاعلا, في منطقته المفاهيمية المعاصرة. فان الارث البصري الصوري الاسلامي هو الاخر لا يزال قابلا للتداول عند الفنان العربي بتخريجات مفاهيمية لا تخلو من احالات ماضوية .
فنحن الآن مثلما نتلقى سيلاً من مفردات المعارف ضمن الفضاءات الشاسعة للمشهدية الإبداعية الفنية الواسعة، علينا أيضا الخوض في إمكانية عرض مكتشفاتنا الفنية الموازية أو المجاورة للمشهد العالمي. رغم أننا أيضا وكشعوب عربية تعرضنا للإعاقة المعلوماتية بسبب العديد من احباطات تواريخنا الحديثة (المتزامنة وزمن الحداثة الأوربية) المعروفة. لكن الآن, وبعد انتفاء الأسباب المعيقة, بانفتاح الأفق العالمي السبراني, والرقمي, على أرحب فضاءاته. لم يعد هناك من سبب لتأخرنا عن اللحاق, او المساهمة في صناعة أعمالنا الفنية بمحاذاة صناعة مراكزها العالمية الأكثر نفوذا. فلقد دخلنا فضاءات مشاعة للمعلومات، وعلينا تجاوز بعض عثرات طموحنا, و تجاوز ما تبقى منها. علينا ان نتحسس نبض عصرنا, وان نحاور حداثتنا التي رثت جوانبها حد ثبات عزلتها. والدخول الى الفضاء المعاصر فناً اجتماعياً لا يلغي تجربة الفنان المتمرس مثلما تجربة أي شخص اخر يحاول دخول هذه المساحات المشاعة. انه فضاء الفكرة المتحولة بصريا.
فقد اصبح ضرورة رفع الخطاب الفني الى مستوى يليق او يتماشى مع الحركة العالمية العنيفة والانفجارية في التطور العلمي الحاصل والتوجهات الفنية العالية الدقة والرقمية المفرطة بالتناسق والتماهي والغريب ان نستمع لتشكيليين يتحدثون عن تعلقهم بمدارس فنية مضى عليها دهر من الزمان بانتمائه الى الاتجاه التعبيري أو التأثيري أو السريالي، وكأنما ينتمون زمنياً الى عصور النهضة والقرنين الثامن والتاسع عشر، بل كأنما هم من أتباع تلك الحركة آنذاك أو ربما سفرائها في المنطقة، ولم يدرك هؤلاء أن المدارس الفنية إنما هي نتيجة حتمية لمجموعة من المؤثرات وفق ثقافة وبيئة محددة وليست تطورا حتمياً للفن بشكل عام. فالأساليب التي ظهرت في أوروبا مثلا في وقت ما لا يتحتم أن يكون لها مثيلاً بذات الشكل والتسلسل في المنطقة الابداعية. فقد جاء الفن المفاهيمي في اوربا وامريكا نتيجة لملل المبدع من الإطار التقليدي للعمل الفني، أيضاً لتحول مفهوم الجمال الفني لجمال الفكرة أو التعبير عنها حيث تعتبر الفكرة التي ينضوي عليها الفعل الفني أو يطرحها أكثر أهمية من الموضوع.
فعلينا التوجه الى البحث عن الذهنية الابتكارية المنفتحة والخلاقة لإعادة صياغة الاتجاه التشكيلي العراقي المحلي بحيث يتواكب مع المتغيرات الحاصلة ، فالفن هو إبداع الفنان ولكنه ملك للثقافة وموجه للمجتمع لذا يجب أن يكون مبلوراً لحاجاتهم ووفق رؤية مستساغة، ويخلق حواراً بين الفنان والمتلقي وعليه من الجميل أن يذوي الفن في ثقافتنا ليجاري التطور الحاصل في المجتمعات الأخرى، ولكن من السوء بمكان أن نكون مسخاً لثقافة نستعيرها دون أن نهضمها، ونكون محل استهجان لتلك الثقافات! وبدلاً من أن نكون مقلدين كما نحن في كافة فروع المعرفة، نتمنى أن نكون مبدعين ومبتكرين لأساليب فنية مستحدثة نابعة من دواخلنا بكل ما نحمل من حضارة وثقافة ورؤى.
برامجيات رقمية
واختلفت اوجه التعبير عن الرؤية بأشكال شتى فباتت الصورة الفوتوغرافية الفنية والفيلم الفيديوي و البرامجيات الرقمية والمرصوصات الرقمية, من عوامل انتشار العمل المفاهيمي, والعمل التجميعي أو الإنشائي, فضلاً عن الوسائل والوسائط المختلطة المتعددة التقنيات.
ونجد القليل جداً في وطننا العربي المهتمين بهذا المجال من الحركة الفكرية والابداعية ولكن نجدها في بعض اعمال الفنانين العرب المغتربين.
ولم يعد للريادة دخل في هذا الأمر(كما كانت الحداثة). فالفضاء السبراني مفتوحاً على سعته للاطلاع والتأثر والتأثير والتداول. هذا بسبب تلقي الفنانون العرب المهتمون بالفن المفاهيمي (علومهم الفنية) في أهم جامعات الفن في العالم ، ما يوفر لهم فرصة اختزال زمنهم للدخول إلى المجال الفني العولمي بأدواته المعاصرة الأكثر تأثيرا. وإن حافظ العديد منهم على صلة وصل بحواضنهم المحلية الأولى, فان الإغراءات المتلبسة بأهداف شتى أخذتهم بعيدا عن ذلك. لكن يبدو أن للقضايا السياسية والاجتماعية الأكثر إلحاحاً, ومنها المشاكل الحاصلة في العراق وقضية فلسطين ولبنان والربيع العربي, في الشرق. والهجرة غير الشرعية والهوية الوطنية, في شمال إفريقيا. والقضايا العامة كالتلوث البيئي والحروب الطائفية والإرهاب وصراع الأضداد الثقافي والبيئي, نصيباً وافراً من هذه الاشتغالات.نأمل من المهتمين بهذا الاتجاه المفاهيمي الالتفات بجدية الى تحديث مهاراتهم ومسارهم الابداعية والتوجه الى تفعيل هذا المجال الخصب الذي يعطي مساحة كبيرة وفضاء واسع الى ادخال الفكرة العالية القيمة وخلق اجواء عذرية لم يطئها احد من قبل وترجمتها على سطح اللوحة بما ينسجم والمرحلة التي نعيشها .
{ كاتب عراقي