الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
مع الحسين في ليلته الأخيرة

بواسطة azzaman

مع الحسين في ليلته الأخيرة

حسين الزيادي

 

كان مقرراً لواقعة  الطف ان تبدأ عصر يوم التاسع من محرم، إذ زحف عمر بن سعد نحو خيام الحسين(عليه السلام) بعد العصر ونادى في جيشه: يا خيل الله اركبي وأبشري، فطلب منهم الحسين أن يُمهلوه سواد هذه الليلة، وقد انقسم القوم بين معارض ومؤيد، وبعد شد وجذب تم التأجيل، ولم ي?ن طلب الحسين عليه السلام تأجيل المنازلة ال? الغد لغرض التفكر وحساب الموقف فهو عليه السلام حزم موقفه، والامر بانت نتائجه، وبدا ?ل ش?ء امامه واضحا جلياَ، كما اخبرهُ جده وابوه، انما اراد الامام ان يقسم هذه الليلة الى اقسام عديدة فهي ليلته الاخيرة من الدنيا، فلتكن ليلة عبادة ودعاء وداع ووصية ، وهو العارف بما ما يخبئه الغد، كما ادرك الحسين بنظرته الثاقبة ان المعركة في وضح النهار سيكون اثرها الاعلامي اشد واقوى، كما اراد الحسين ان يختبر اصحابه ومن معه، وان يعد خطته العسكرية لمواجهة هذا السيل من العسكر.

لملمت شمس تاسوعاء اذيالها واختفت من الأُفق معلنة بدأ مراسيم الحداد، ولاح سواد ليلة عاشوراء على فيافي كربلاء، معلنة اقتراب الرحيل، وأخذت قطع الظلام الحالكة تغزو كلّ ثغر ومكان، ولاذ الجميع إلى مأمنه ومأواه إلا ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته وأصحابه، وعقائل الهاشميين وذراري رسول الرحمة (صلّى الله عليه وآله)  فلا مأمن لهم ولا مأوى  ولا نصير، بات ال محمد ليلتهم الاخيرة ضيوفا عل? الدنيا، سويعات قليلة تفصلهم عن  الحدث الأكبر والميلاد الجديد، غداً ستكون الفاجعة الكبرى التي لم تشهد لها الدنيا مثيلاً، غداً تراق الدماء النبوية الطاهرة فوق الثرى، مرت هذه الليلة بشريط ذكرياتها، واخت الحسين تجول بين خيام وتتنقل بين اخوتها وابناءهم، تودع هذا وتستفسر من الآخر، مضت تلك الليلة، ومض? معها تاريخ طويل من الذكريات وها هو يوم العاشر يبزغ فجره.

ارخى الليل سدوله وهدأت اصوات الإنام وسكنت الجفون، إلا فتية من آل محمد، باتوا ليلتهم بين داع ومصل ومستغفر وتال للقرآن، باتو ولهم دوي كدوي النحل استعداد للقاء الله سبحانه، فيومهم الأخير سيكون شاقاً، طويلاً بأحداثه، كبيراً بأحزانه واتراحه، وسيبقى سيد الشهداء وحيداً يستنصر فلا ينصر، ويستغيث فلا يغاث، وسيعانق ثرى كربلاء باغماضته الأخيرة، غداً يبدأ شلال الدم الطاهر يلامس ثرى ?ربلاء لكن قبل هذا ستكون فواجع ورزايا، عبر عنها المستشرق البريطاني السير آرثور ولستون حينما قال: (لم يشهد العالم قط رجلاً هالت عليه مثل تلك المصائب والآلام من العطش والجوع وعدم الاستقرار، ومع هذا فقد قاوم وواجه هذا الكم الهائل من الأعداء في تلك الصحراء العربية ذات الحرارة الشديد).

ليلة تاريخية

نعم ، انها ليلة تاريخية قاسية، لايحتملها انسان مهما اوتي من رباطة الجأش،  لكن ربيب النبوة وسليل الدوحة الهاشمية لم ينشغل عمّا يهمّ أمر دينه ودنياه، وحاشاه أن يرتبك وهو ابن علي عليه السلام، لذلك قسّم ليلته تلك  إلى ثلاثة أقسام :القسم الاول اجتمع مع اصحابه وخبرهم وخيرهم بالرحيل ورفع البيعة عنهم خاطباً فيهم : اما بعد فإنّي لا أعلمُ أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي ولا أهل بيت أبرَّ ولا أوصل من أهل بيتي فجزاكُم الله عنّي جميعاً خيراً ، ألا وإنّي أظنُ يَومنا من هؤلاءِ الأعداء غداً إلّا وإنّي قد أذنتُ لكم ، فانطلقوا جميعاً في حلٍ ليس عليكم حَرجٌ منّي ولا ذمام، وهذا الّليلُ قد غشيكم فاتّخذوه جَمَلا ، وليأخُذ كلُ رجلٍ منكم بيد رجل من أهل بيتي، وتفرّقوا في سَوادِكم ومدائنكم حتّى يُفرجَ الله ، فإنَّ القومَ إنما يطلبونني ولو قد أصابوني لَهوا عن طلب غيري.

نظر الحسين عليه السلام ال? الجيش الزاحف نحوه على ملأ البصر ، تأمله طويلاً ونفسه مطمئنة بذ?ر المولى عز وجل، هانت عليه دنيا الباطل وتصاغر الجيش امامه، فلم ترهبه ?ثرة اعدائه وتدافع سيوفهم ورماحهم نحوه ، فاتجه نحو ربه رافعا يد الضراعة والابتهال مناجيا اياه : اللهم انت ثقتي ف في كل كرب وانت رجائي في كل شدة، وانت لي في كل امر نزل بي ثقة وعدة، كم من هم يضعف فيه الفؤاد، وتقل فيه الحيلة ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدو انزلته بك وش?وته اليك رغبة مني اليك عمن سواك ففرجته عني، فانت ولي نعمة وصاحب كل حسنه ومنتهى كل رغبة.

اما القسم الثاني من اعمال هذه الليلة فقد خصصه الامام الحسين عليه السلام للتخطيط العسكري فقد امر أصحابه ان يقرّبوا بيوتهم بعضها من بعض، وأن يدخلوا أطناب الخيام بعضها في بعض حتّى يحتوي معسكره على أقل مساحة ممكنة من الأرض ثمّ أمرهم بأن يحفروا خندقاً حول الخيام، وفي كلّ أطراف المعسكر ، ما عدا طرف واحد وهو طرف المواجهة ، ثمّ أمر أن يملؤوه بالقصب والحطب حتّى يكون جاهزاً عند الصباح لإضرام النار فيه، فيكون بذلك خطّاً دفاعيّاً لهم ، يقيهم من هجوم الأعداء من كلّ الجوانب، ويحفظهم من محاصرة القوم لهم من كلّ الأطراف ، وليكون دفاعهم عن أنفسهم على جبهة واحدة ، ومن طرف واحد وقد افصح الامام الحسين عن وعي عسكري وعبقرية فذه فقد جعل الخيام على شكل قوس والمواجهة من جانب واحد.

تلاوة القرآن

اما القسم الثالث في اعمال الليلة الاخيرة فكانت مخصصة للعبادة والتوجّه إلى الله تعالى، بالصلاة  وبتلاوة القرآن ، وبالدعاء والاستغفار، واقتدى به كلّ أصحابه وأهل بيته ، وفي طليعة أصحابه وأهل بيته أخوه العبد الصالح المطيع لله ولرسوله أبو الفضل العبّاس (عليه السّلام) ، فإنّه إلى جانب حراسته كان قد شارك الأصحاب في ابتهالهم إلى الله تعالى ، فقاموا يصلّون ، ويتلون القرآن ، ويدعون ويستغفرون حتى كان لهم على أثر ذلك دويّ كدويّ النحل حسب تعبير من شهد المعركة .

غداً سيعانق الحسين عليه السلام صعيد الطف، ممدداً عارياً علي بطحاء كربلاء ، وسيجري شريان الدم النبوي، ولكن هل يكتفي الاعداء بذلك، هل تهدأ روح الكراهية عند هذا الحد، الجواب عند الحسين عندما طلب من اخته:  ابغوا لي ثوبا لا يرغب فيه احد أجعله تحت ثيابي لئلا أجرد منه، لأنه عليه السلام يعلم انه مقتول مسلوب وفعلاً كان ذلك، لكن هل خفت روح الحقد والوحشية التي ملأت جوانح الطغاة ، الجواب كلا، لم يكتفوا بذلك الصنيع ولم تستفرغ احقادهم في حدود هذا الموقف، بل راحوا لاحتزاز الراس الطاهر، ورفعوه فوق رمح طويل لتخبو نفوسهم المريضة وتستقر نوازع الجاهلية في دواخلهم، لكن هل خبت عند هذا الحد نفوسهم، الجواب كلا،  فمازالت في انفسهم احقاد تسري مسرى الدماء، فانتدبوا عشراً من الخيول الأعوجيّة، لتطأ الجسد المقدس، استشهد الحسين عليه السلام وانتهى جسداً وقطع غصن النبوة، واحتز الراس الذي طالما سجد مخلصا لله ، لكن الحسين ولدّ قضية ومبدأ ورسالة وبقيّ موجودٌ مخلّد، لان ثورته هي ثورة الإنسان الباحث عن النور والحرية والعدالة، وكلماته شاهدة على ذلك: "أيها الناس إني سمعت جدي رسول الله يقول: من رأى منكُم سُلطاناً جائِراً مُستحلاً لحُرم الله، ناكثاً بعَهدِه، وفي رواية بيعته، مُخالِفاً لسنّةِ رسولِ الله، يَعملُ في عبادِه بالإثمِ والعدوانِ، فلم يغِرْ، وفي رواية فلم يُغيّر ما عليهِ بقولٍ ولا بفعلٍ، كان حَقّاً على الله أن يُدخِله مَدخلَه، استشهد وريث النبوة وامتداد الرسالة وثمة صدى يردد في افق الشهادة وبقايا الجسد الشريف (لا اعطي?م بيدي اعطاء الذليل ولا اقر اقرار العبيد(ترك الحسين عليه السلام إرثاً عظيماً لم يتركه احد، ترك مدرسة للبطولة والاباء وسفراً خالداً من الشجاعة والاقدام والتضحية والفداء والبطولة والإيثار، واغدق البشرية فكراً وعطاءً وغمرها نوراً وحياة، فأينعت به الضمائر الحية والنفوس الكريمة واخضرّت به القلوب المؤمنة التي ايقنت ان الشهادة طريق المجد والرضوان.


مشاهدات 302
أضيف 2022/08/07 - 4:34 PM
آخر تحديث 2024/07/18 - 7:58 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 192 الشهر 8181 الكلي 9370253
الوقت الآن
الجمعة 2024/7/19 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير